«زوربا» يُخفي وجهه

آراء

إذا دخلت غرفة النوم تبحث عن شيء، وفي منتصف الغرفة نسيت الشيء الذي جئت تبحث عنه، فتأكد أنك مصاب بعسر التفكير، أصابتني هذه الحالة الثلاثاء الماضي، لم أرسل مقالتي الأسبوعية إلى «الإمارات اليوم»، أعتقد أن عسر الكتابة لا يزيله إلا إنسان ملهم كصديقي «زوربا»، ذهبتُ أبحث عنه في سوق السمك، حيث اختلطت رائحة الأسماك برائحة عرق الباعة مع رائحة الأرضيات المغسولة بماء البحر، وجدته يقف في زاوية متلثماً، بالكاد تعرفت إليه من حاجبيه الكثيفين، وعلبة السجائر التي تطل من جيبه الأمامي.

سألته: لِمَ هذا التخفي يا «زوربا»؟ أجاب: هي محاولة مني لأغلق فمي، فالساكت عن الحق شيطان، والناطق به شيطان أيضاً! شكوت له عسر التفكير، عقلي توقف عن اصطياد الأفكار. فكَّ «زوربا» لثامه: ستجد الأفكار من حولك في السوق، سنختار إحداها ونناقشها، بشرط ألا يكون نقاشنا سفسطائياً، فكم أكره الجدل الذي صار صنعة الجميع! كم أمقت التلاعب بالألفاظ بقصد الإقناع!

أخبرته أنني أرثي لحال العاملين في بيع الأسماك، ملابسهم الرثة تنم عن بؤسهم. قاطعني «زوربا»: هؤلاء هم التجار الحقيقيون، لا تغتر بالمظاهر، ستصادف خارج السوق أصحاب السيارات الفارهة والساعات الثمينة، أولئك هم من يستحق الشفقة، عبدة المظاهر، هم لا شيء، مجرد قوالب مزيفة تبحث عن الاحترام بلباسها، تدّعي الغنى، في داخلها خواء، نصيحتي لا تكتب عن المظاهر الخادعة، نصيحتي لا تكتب عنهم، سينقلبون عليك إن عرّيتهم، دعهم.

أشار بيده إلى القط السمين، قال: اكتب عن هذا، أسعد من في السوق، قدّمه لقرّائك كرمز للنجاح. أجبته: بل رمز للفشل، يكفي أن الفئران تصول وتجول في السوق وقطك لا يحرك ساكناً، هنا ضحك «زوربا»: أتظن أن القط سيجهد نفسه ليصطاط الفئران مع كل الأطنان الملقاة من بقايا السمك في مزابل السوق.

توقفنا نحن الاثنين لنشاهد الصخب والمشاحنات التي اشتعلت فجأة بين تجّار الأسماك، كل واحد منهم يرفع صوته و«الدلال» يحاول فك الاشتباك، عندها قال «زوربا»: لفهم طبيعة هذا الصخب الكبير، تلزمنا دراسة مجموعة من الفروض التي تنظم عالم الحيوان، أولها يتعلق بمفهوم الإقصاء، الذي لا يمكن أن يُنسب إلى الإنسانية بإطروحاتها الأخلاقية السامية، واحترامها الرأي والرأي الآخر، فالفكر الإقصائي دائماً يعتقد بقدسية خطابه.

هنا أخبرته أن هذا الأمر طبيعي في حياة البشر أيضاً، فلا أحد يقبل بمناقشة الأفكار الموروثة، انظر إلى محاولات فضّ النزاع يا «زوربا»! كل بائع يحاول تحميل كلام الآخر ما لا يحتمل، ويُقوّل الخصم ما لم يقل، ويسعى لإسقاطه بكل وسيلة.

حينها جاءتني الفكرة، سأكتب عن مدى نجاح الإنسان في تقبل آراء الغير المخالفة لمنهجه، ضمن منطقة تتعايش فيها مئات الجنسيات والأديان والمذاهب.

تركت صديقي «زوربا»، خرجت من السوق مسرعاً قبل أن تعود إليّ حالة عسر الكتابة مجدداً.

المصدر: الامارات اليوم

http://www.emaratalyoum.com/opinion/2014-12-10-1.735761