زيارة ولي العهد… حساب الحصاد الأميركي

آراء

ثلاثة أسابيع استغرقتها زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تستحق قراءة لحساب الحصاد، لا سيما وأنه حصاد يتصل بالبشر قبل الحجر.

من دون تهوين أو تهويل يمكننا القطع بأن الزائر الأمير قد أحدث صدمة إيجابية خلاقة، إن جاز التعبير، لدى المجتمع الأميركي، فقد حمل معه رؤية أقرب ما تكون إلى ما يعرف بـ«شبكة الأفكار التقدمية» (Progressive Ideas Network)، تلك التي تتجاوز إشكاليات القضايا السياسية التقليدية، التي كانت مثار التصارع والتنازع بين العرب وبين الأميركيين لعقود طويلة.

صدمة الأميركيين الإيجابية التي نتحدث عنها، تمثلت في قائد شاب جاء بمبادرات ورؤية ضمن استراتيجية، أي أنه يمضي في سياق الأطر العلمية المنهجية التي يتفهمها الأميركيون جيداً، وبعيداً عن الرايات الفاقعة والأصوات الزاعقة شرق الأوسطية.

يمكن للمرء، ومن خلال التدقيق فيما كتب عن الأمير محمد بن سلمان عبر الصحافة الأميركية، القطع بأن هناك إعجاباً بقدرته على رفع معنويات شعبه والأخذ به إلى قصب السبق من خلال جهوده التي يبذلها، وفيها يتحدث بأصوات السعوديين، بل وكثير من أبناء المنطقة الذين يحلمون ببناء غد مشرق لأبنائهم، غدٍ تنسجه الأيادي العاملة والعقول المبدعة، من خلال الإبداع والمعرفة، والفضيلة والأخلاق.

حساب الحصاد لزيارة ولي العهد إلى الولايات المتحدة تنبئنا بمولد قيادة فاعلة وناجزة في المملكة، قيادة استطاعت أن ترسم صورة لها كما تريد، قيادة حاسمة وجسورة تعرف كيف يُصنع المستقبل.

لعل الجزئية الأكثر إثارة لعقول الأميركيين هي متابعتهم لرجل يؤمن بالعلم، ويباعد بين شعبه وبين الخرافة والأساطير، هذا ما تجلى في جولاته وصولاته، التي ترجمت إلى اتفاقيات وشراكات مع كبرى الجامعات والمعاهد العلمية.

قبل أن تنتهي الزيارة بساعات قلائل كانت هناك زيارات لوادي السيليكون، أي إلى عالم الإبداع التكنولوجي، وإلى آفاق العالم الرحب الواسع من البرمجة وتطوير الرؤى الإبداعية الرقمية، وفي القلب من الزيارة كان البشر قبل الحجر، الشباب السعودي أولاً وأخيراً، وحتمية إنشاء مراكز تطوير وتدريب تأخذ بأيديهم إلى عوالم وعواصم القرن الحادي والعشرين وما وراءه من تعاون في المجال السيبراني، نقلة مغايرة لحالة الانغلاق الفكري التي فُرضت فرضاً على أربعة أجيال من شباب المملكة، وإن شئت الدقة، على الملايين من شباب المنطقة.

ليس سراً نذيعه أن هناك في الداخل الأميركي من القوى من لا تود رؤية زعيم عربي شاب يحمل أحلاماً لنهضة بلاده وأمته وشعبه، ويرسم خريطة من النماء والازدهار، ومن العمار والتقدم، ولعل أفضل طريق لمواجهة هؤلاء هو تجاهلهم، والمضي قدماً في التعاطي مع الحقائق لا محاربتها.

يلفت النظر في الساعات الأخيرة لزيارة ولي العهد، تلك الجولة عالية الأهمية في قطاعات شركة «لوكهيد مارتن»، التي تمثل قلعة من قلاع المجمع الصناعي العسكري الأميركي، أحد أهم الأجنحة الأميركية الفاعلة في صناعة وصياغة القرار الأميركي، وهناك كان الحديث عن زمن الأقمار الصناعية السعودية القادم، وتوطين نظم القيادة والسيطرة والاتصالات بالكامل في المملكة، عطفاً على توطين الصناعات الدفاعية، ونقل تقنيتها إلى المملكة.

إن كان للمرء أن يُوصِّف رؤية إبداعية فهي تلك الموصولة بجعل المملكة شريكاً في المستقبل الجغرافي والديموغرافي، العلمي والتكنولوجي للآخرين، وفي مقدمتهم الشعب الأميركي، الذي يتوافر على الكثير من العلم والصناعات المتقدمة، أي ومن جديد أن تضحى المملكة فاعلة عبر التاريخ، وليست مستورداً لتكنولوجيا الآخرين.

زيارة ولي العهد إلى مقر شركة «آبل» انطلاقة خلاقة أخرى لا تستهدف جلب الاستثمارات إلى داخل المملكة فحسب، بل تسعى أيضاً إلى جعل العملية التعليمية في المملكة متساوقة مع نظيراتها الدولية، لا سيما بعد تمكين الشباب السعودي من الحصول على التدريب في مقر الشركة.

هل أغفلنا حساب الحصاد السياسي لهذه الزيارة الطويلة؟

الشاهد أن الأمر هنا يحتاج لمساحة يقصر عنها المسطح المتاح للكتابة، غير أنه يمكننا القول إن حديث ولي العهد إلى مجلة «التايم» الأميركية هو بمثابة رؤية شافية ووافية، أو «مانيفستو» لمرحلة وسياسة واعية بالذات والآخر، الذات التي تقدر لِرِجْلِها قبل الخطو موضعها، والآخر الصديق تارة، والعدو تارة أخرى، وبينهما «أعدقاء» آخرون، إن جاز التعبير.

حديث «التايم» صافرة إنذار للكثير من الكوارث الواقفة خلف الباب تشتهي أن تتسيد على الجميع، وفي مقدمتها التطرف والإرهاب، هذا الغول الذي يسعى لإفساد حياة الناس في عالمنا المعاصر، وقد نبّه الأمير محمد لشأن جلل، وهو أن «الإسلام مختلف تماماً عمّا يحاول المتطرفون الترويج له اليوم»، وهي حقيقة لا بد أن يتفهمها دعاة الإرهاب من الإسلام «الإسلاموفوبيا» بمزيد من الموضوعية وبتجرد ونزاهة كاملين.

صدمت صراحةُ ووضوح الأمير محمد النخبةَ الأميركية قبل العوام، حين أشار إلى خطورة تيار «الإخوان المسلمين»، الذي لا تزال أميركا تغازله، وغير راغبة حتى الساعة في اتخاذ موقف حاسم وحازم منه، وقد أشار إلى أن جماعة «الإخوان المسلمين» تأمل أن تصبح أوروبا قارة «إخوانية» بعد ثلاثين عاماً، وعسى أن يصل هذا الحديث إلى أركان وزارة الخارجية المليئة بالموالين لهم من الذين خلفتهم هيلاري كلينتون وباراك أوباما، ولعل ترمب يأخذ خطوة تحسب له إن كان يريد حقاً محاربة الإرهاب حول العالم.

حساب الحصاد يهم الأميركيين بنوع خاص فيما يتعلق بإيران، وعند ولي العهد أن إشكاليات الشرق الأوسط تقف إيران وراء جلها أمس واليوم وغداً.

حكماً جاء حساب الحصاد الأميركي مطابقاً لحساب حقل الأفكار غير النمطية للأمير محمد، أفكار الابتكار والتواصل.

الخلاصة… نجح ولي العهد السعودي في إقامة جسر جديد من الرياض لواشنطن… جسر يجسر التعاون الثنائي ويدشن مرحلة تاريخية ثانية من علاقات استراتيجية تقوم عليها أيادٍ لا ترتعش، بل تقبض على دفة التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، بين الشرق والغرب، كما تقبض على الجمر.

المصدر: الشرق الأوسط