ياسر حارب
ياسر حارب
كاتب إماراتي

سجناء السعادة

آراء

اشتكى لي طبيب أميركي يعيش في دبي منذ زمن، أنه يعمل كثيراً من دون أن يعرف لماذا، تماماً مثلما كان يفعل في أميركا، لكنه اكتشف الآن أن السنوات الطويلة التي قضاها في عيادته، كانت من أجل أن يشتري ساعة غالية وسيارة فارهة ويذهب إلى أفضل المطاعم!

وفي جامعة هارفرد، أجرت مجموعة كبيرة من العلماء إحدى أطول الدراسات في التاريخ عن موضوع السعادة، حيث قاموا في ثلاثينات القرن الماضي باختيار مجموعتين من الأولاد (724 شخصاً)، الأولى من الطبقة الراقية في مدينة بوسطن، والثانية من أفقر أحياء المدينة الذين لا توجد في منازلهم مياه دافئة، ثم أمضوا ٧٥ عاماً في دراسة كل شيء بحياتهم، فحصوا دماءهم وأدمغتهم، وكانوا يقرأون نتائج فحوصهم الطبية حسب الاتفاق الموقّع مع ذويهم. درسوا نفسياتهم، مشكلاتهم، طموحاتهم وأحلامهم، ووضعوا كاميرات في منازلهم ليراقبوا سلوكهم مع أُسرهم، كل ذلك طيلة العقود السبعة ونيّف، حيث تعاقب على الدراسة أربعة أجيال من العلماء. كان من أولئك الأولاد من صار عاملاً في مصنع، والطبيب، والمحامي، وكان من بينهم جون كينيدي رئيس الولايات المتحدة، وكان منهم مدمن الكحول والمخدرات، ومن أصابته أمراض نفسية.

اكتشفوا أن السعادة الحقيقية تكمن في شيء واحد «العلاقات الإنسانية الطيبة»، ولا يعني ذلك عدد أصدقائك أو أفراد أسرتك، فقد تشعر بالوحدة وأنت بين الناس، وقد تكون متزوجاً إلا أنك وحيد، بل يعني جودة علاقاتك مع الآخرين. واكتشفوا وهم يقرأون نتائج الدراسة، أن الذين عاشوا بصحة جيدة حتى سن الثمانين، ليسوا الذين كان مستوى الكوليسترول والضغط في أجسامهم منخفضاً عندما كانوا في الخمسين، بل الذين كانت علاقاتهم الاجتماعية مستقرة في تلك السن!

وفي مقابلة مع أسعد عائلة من المجموعة، اكتشفوا أنه عندما كانت الآلام الجسدية تشتد على الزوجين وهما في الثمانين، فإن مشاعرهما ومزاجهما يبقيان كما هما لا يتغيران. أما أتعس عائلة فقالت إن الآلام الجسدية كانت تتضاعف عندما تصيبهم؛ لأن الألم النفسي وإحباطاتهم من توتر علاقاتهم كانت تضخم تلك الآلام.

يقول المشرف الرابع على الدراسة إن العلاقات السعيدة تؤدي إلى ذاكرة أفضل، أما العلاقات التعيسة فإنها تسرّع الإصابة بالخرف وأمراض الدماغ الأخرى، ورغم أن السعداء ليسوا سعداء على الدوام، فحياتهم لا تخلو من خلافات ومشكلات، لكنهم يستطيعون الاعتماد على شريك حياتهم.

فريق البحث الأخير سأل مجموعة من الشباب والفتيات، قبل سنوات قليلة، عما يريدون أن يكونوا عندما يكبرون، فقال 80% إنهم يريدون أن يكونوا أغنياء، ثم سألوا مجموعة ثانية فقال 50% إنهم يريدون أن يكونوا مشاهير، إلا أن الدراسة الطويلة أشارت، إلى أنهم عندما قارنوا بين شخص دخله السنوي 75 ألف دولار وآخر دخله 75 مليون دولار، اكتشفوا أن مستوى سعادتهما ولياقتهما الصحية متقارب جداً!

أقول لسجناء السعادة، الذين يعملون ليل نهار، ويعانون مِن هوس المظاهر، إن الاجتهاد في العمل شيء نبيل، والأناقة جميلة، والرفاهية الاجتماعية حق للإنسان، لكن تذكروا هذه الجملة: لا أحد تمنى وهو على سرير الموت لو أنه اشترى ثياباً أكثر، أو جلس لساعات متأخرة في المكتب، بل معظمهم تمنى لو أنه أمضى وقتاً أطول مع مَن يُحب.

المصدر: الإمارات اليوم