علي عبيد
علي عبيد
كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة

سلطان الإعلام

آراء

حدث هذا قبل أكثر من ثلاثة عقود. كنت وقتها قد تخرجت من الجامعة، وبدأت حياتي العملية في «تلفزيون الإمارات العربية المتحدة من أبوظبي» رئيساً لقسم الأخبار، فنائباً لمدير عام التلفزيون ومراقباً عاماً للبرامج، ثم مديراً عاما للتلفزيون.

كانت الساعة تشير إلى حوالي الثامنة مساء، عندما وجدت التليفون يرن في مكتبي وعامل البدالة يقول لي إن هناك مشاهداً اسمه «سلطان القاسمي» يريد التحدث إليك. أخذت الخط لأجد على الطرف الآخر صوتا وقوراً هادئاً يبدأ بالسلام، ويعرّف بنفسه دون ألقاب، ويقول لي إنه جالس أمام شاشة التلفزيون يتابع برامجناً، عندما شده اسم البرنامج الذي كان يبث على الهواء وقتها، وكان اسمه «جولة الكاميرا» فقرر أن يتابعه بعد أن توقع أن تأخذه مقدمة البرنامج إلى خارج الأستوديو بكاميرا التلفزيون لعمل تقارير خاصة بالبرنامج، لكنه فوجئ بها لا تغادر الأستوديو إطلاقا، وتقدم تقارير واردة من وكالات أنباء أجنبية، لم تبذل فيها مجهوداً سوى قراءة التعليق العربي الذي غالباً ما يكون وارداً معها.

كنت أستمع إلى الصوت الوقور الذي لم يكن غريباً عليّ، لكن عنصر المفاجأة جعلني لا أستوعب في البداية أن من كان يحدثني على الطرف الآخر هو صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة. رحبت بسموه بعد أن أكمل ملاحظته، وشكرته على الاتصال، وقلت له إنني أتفق تماماً مع ما قاله، ووعدته بأن أنقل ملاحظته هذه إلى معدة ومقدمة البرنامج لمراعاتها في الحلقات المقبلة، وتوقعت أن ينهي سموه المكالمة، لكنه واصل حديثه، فحدثني عن التلفزيون ودوره في تثقيف المشاهد، والرسالة التي يجب أن يؤديها لخدمة المجتمع.

وقد استمرت المكالمة، إذا لم تخني الذاكرة، نصف ساعة تقريباً، استمعت خلالها إلى حديث علمي عميق، لا يصدر إلا عن شخص يعي دور الإعلام جيداً ويقدّر رسالته، ويحمل شغفاً به، ربما لا يحمله كثير من العاملين في مجال الإعلام نفسه.

هذا الشغف الكبير بالإعلام ترجمه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، بعد سنوات قليلة من هذه المكالمة التي مازلت أتذكرها جيداً، وأرجو أن يعذرني لاستشهادي بها دون أخذ الإذن من سموه، لعلمي بمدى شغفه بالإعلام، ومدى حبه وتقديره للكتاب والإعلاميين.

وقد جاءت ترجمة سموه لهذا الشغف على شكل تأسيس تلفزيون الشارقة وافتتاحه في 11 فبراير 1989، وإعادة افتتاح إذاعة الشارقة في 15 نوفمبر 2000، وهي الإذاعة الرائدة التي كان قد تم إنشاؤها عام 1972، ثم ضُمّت إلى إذاعة أبوظبي بقرار من سموه، في خطوة وحدوية يعرفها الجميع، لتعود إلى البث من جديد، بعد أن أصبح تعدد المنابر الإعلامية مطلوباً، والمنافسة مشروعة.

وقد وضع سموه في تلفزيون وإذاعة الشارقة رؤيته التي أكدها الأسبوع الماضي أثناء لقاء الإعلاميين الخاص بسموه في مسرح المجاز بالشارقة، وألقى خلاله محاضرة قيمة ضمن المجلس الرمضاني الذي نظمه مركز الشارقة الإعلامي. في هذا اللقاء تمنى سموه أن يرى الإعلامي مربياً، يثقف ويعلم ويرتقي، مترفعاً عن الإثارة. وأكد سموه أن رسالة الإعلامي كبيرة، وقال إن الكاتب الحقيقي هو الذي يضيف إلى القارئ، ودعا إلى توجيه رسالة قوية للإعلام العربي، تطلب منه أن يرتقي ويترفع عن المهاترات.

كما ترجم صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي شغفه بالإعلام إلى متابعة دقيقية لكل ما يكتب وينشر في الصحف، وكل ما يُعرَض على شاشة التلفزيون ويُبَث عبر الإذاعة، وتواصل شبه يومي مع برنامج «الخط المباشر» الذي يقدمه الزملاء في مؤسسة الشارقة للإعلام عبر إذاعة وتلفزيون الشارقة، وتفاعل قوي مع كل ما يطرح من خلال هذا البرنامج الذي أصبح منبراً للمستمعين والمشاهدين، يعبّرون من خلاله عن آرائهم، ويطرحون قضاياهم التي تلقى من سموه الاهتمام الفوري، والتواصل المباشر مع البرنامج لحل بعض القضايا، وتوضيح بعض الأمور الخافية على الجمهور.

كما أصدر سموه تعليمات لجميع المسؤولين في إمارة الشارقة بالتفاعل مع البرنامج، الأمر الذي جعلنا نغبط الزملاء في مؤسسة الشارقة للإعلام لما يلقونه من اهتمام سموه، ونشفق عليهم في الوقت نفسه، لما يبذلونه من جهود جبارة لتنفيذ رؤية سموه، لأن سموه يضيف إلى رؤيته كل يوم جديداً، وهي رؤية تضفي على إعلام الشارقة نكهة خاصة، وتمنحه تميزاً وطابعاً قلّما نجده في وسائل الإعلام العربية الأخرى، في ظل جري هذه الوسائل وراء الربح المادي على حساب الرسالة التي من المفترض أن تضطلع بها، وسعيها إلى إرضاء المستمع والمشاهد على حساب الذوق العام والمبادئ الأخلاقية.

«من هم العرب؟» كان عنوان المحاضرة التي ألقاها سموه في اللقاء الخاص بنخبة من الإعلاميين يوم الثلاثاء الماضي، وكانت محاضرة ممتعة، أوضح لنا سموه خلالها جنس العرب ولغتهم وكتابتهم. وعلى النسق نفسه حدد سموه مواصفات الإعلامي الحقيقي، وكأنه يسأل: «من هو الإعلامي الحقيقي؟». وكانت الإجابة صريحة ومتسقة مع رؤية سموه للإعلام ودوره في المجتمع، لذلك لم أجد اختلافاً في الجوهر بين تلك المكالمة التي مضى عليها أكثر من عقود ثلاثة، وبين الطرح الذي استمعت إليه من سموه يوم الثلاثاء الماضي، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذه الرؤية أصيلة وثابتة، تتطور لكنها لا تتغير.

شكراً يا صاحب السمو.. فقد أثبتم أن للإعلام سلطاناً ورسالة.

المصدر: البيان