سوء استعمال الحرية

آراء

في ليلة ليلاء، توقفت عند إحدى المحطات التلفزيونية التي تبث برنامجاً دينياً أسبوعياً، واستمعت إلى حوار بين رجلين، أحدهما يسأل ليفهم، والآخر يجيب ليوضح ما التبس على صاحب السؤال. المفزع في الأمر، والذي يبعث الألم في النفس، أن الشخص صاحب السؤال في بداية الأمر كان مهذباً وهادئاً، ويردد كلمات نعم يا شيخ، جزاك الله يا شيخ وفجأة، فإذا به يتحول إلى كائن آخر، يسب، ويشتم، ويكيل النعوت البذيئة على محدثه ويتهمه بألفاظ ما أنزل الله بها من سلطان.

في الحقيقة استوقفني هذا الحوار غير المتكافئ، حيث السائل يقتحم الشاشة عبر صوت الهاتف ويواري كل أخلاقه المصطنعة التي أظهرها في بداية الأمر، ليتحول إلى كتلة من الجحيم تلقى في وجه رجل الدين وتحول الحوار، إلى مرافعة، ومحاولة يائسة من الرجل الجالس خلف الشاشة، لتهدئة روع السائل، والتخفيف من شططه، ولغطه، وغلطه، ولكن لا جدوى، بل إن السائل صار، يرعد ويزبد ويصب جام غضبه في وجه محدثه، وكأن ما بينهما ثأر قديم.

عندما نفكر في مثل هذه الحالات، يبرز أمامنا سؤال، وهو: هل كان الرجل جاء ليسأل، وليفهم؟ أم ماذا؟ أتصور ومن خلال متابعتي لكلامه الناري، والمحتقن، والمتشظي والذي جاء بأسوأ الألفاظ المعجمية، وكأن الرجل الذي جاء يسأل، لم يتعلم لا في البيت، ولا في المدرسة شيئاً اسمه أدب الحوار. ولم يتشرب من تعاليم الدين الذي جاء ليستزيد منه عند من هم أعلم منه، وأفقه.

حقيقة هذه النماذج السيئة، هي التي يخرج من براثنها الإرهاب، وهي الحاضن الأساسي للفكر العدواني. فعندما لا يتحمل الشخص رأياً يخالف قناعاته، ويعتبر من يخالفه عدواً له وخصماً لدوداً فإنه لا بد أن يتطور الحوار من فكري إلى مادي، ومادة الإرهاب هي إفناء الآخر والتخلص من وجوده، لأن وجوده يسبب ضرراً للشخص العدواني.

وأعتقد أن قول سارتر إننا محكومون بالحرية انقلب لدى البعض إلى أننا محكومون بالإساءة إلى الحرية، وهذا أمر طبيعي، ففي غياب الوعي تصبح الحرية هي التخفي خلف الحجب للتعبير عن أمراض عصابية فتاكة وتراكمات لمفاهيم مغلوطة، وعقد نقص، ومركبات دونية أودت بكل الأخلاق، وأطاحت القيم، وقطعت دابر المعرفة الحقة ليصبح أي حوار هو نطح، وقدح، وكبح، وجنوح نحو الأنانية، وجموح باتجاه السلوك المسعور، واتخاذ أي حوار حجة للتنفيس عن معضلات النفس المأزومة، وتحريض اللسان على التقاط، كل نفايات التاريخ، وقذفها في وجه من يخالف ويعارض رأيك.

هذه سمة من سمات الأشخاص الذين ربما قرؤوا ولكنهم لم يقرؤوا، لأن قراءتهم كانت لمجرد الانغماس في القراءة، وليس في الوعي، وأمثال هؤلاء يشكلون عبئاً على المجتمع، لأنهم أطفال كبار كبروا في السن، ولكن عقولهم لم تزل تحمل سنوات الطفولة المبكرة التي لم تستوعب بعد ما هو الحوار، وبالتالي فإن الأداة الأنجح لديهم هي سكين اللسان، أو سكين اليد. هؤلاء هم أكثر الناس إلحاحاً، في طلب الحرية، لأنهم في أجواء الحرية يملكون زمام الاندفاع باتجاه الآخر بكل ما يملكون من حنق وحقد وكراهية، وكل هذا تحت ذريعة حرية الرأي، ولكن الحرية تتوقف جداولها عن التدفق، عندما يكونون هم في موقع اتخاذ القرار وشهدنا هذا في أكثر من حدث، وموقف. خلاصة القول الحرية في نظر البعض هي معطف رخيص الثمن يتم استبداله، في أي وقت.

المصدر: الاتحاد