شاعر القبيلة عندما يهجرها.. نقد الذات ورؤية الآخر!

آراء

هناك سؤال مهم حول أسلوب العمل الصحفي العربي في عصر الكونية الراهنة ربما يثير إشكالية العلاقة بين الصحفي العربي والسلطة السياسية في بلاده، وبين دور الصحفي ومسؤوليته المهنية أمام مجتمعه خاصة في ظل إمكانات التواصل الكوني التي تتيحها العولمة الآن، والسؤال هو: «هل اصبح الصحفي العربي شاعراً لقبيلته؟» وبصيغة اخرى: هل يؤدي الصحفي العربي الآن دور شاعر القبيلة العربية، فلا يجرؤ على نقد القبيلة و لا قول ما يخالف شيخ القبيلة ولا يخرج عن وعي القبيلة وثقافتها وإن فعل فقد خان القبيلة وخرج عليها؟

لكن عالم اليوم قد تغير كثيراً عن عالم الأمس القريب. والقبيلة «اليوم ليس لها بد من التعامل مع القبائل الأخرى وربما تلاشت حدودها أو تلاقت، في تفاعل إيجابي أو تصادم في المصالح، مع قبائل أخرى خارج حدود جغرافيتها وفضائها الثقافي والإجتماعي. هذه حقيقة لابد أن نفهمها: اليوم ليس أمس. إننا أمام حقائق مختلفة وظروف جديدة وتحديات حقيقية وستكون كارثة أن أصررنا على البقاء في الأمس ولم نفهم حقائق الراهن بكل تحدياته وشجونه.

لكننا، فيما يبدو، نصر على أن نبقى في سجن القبيلة حتى في ممارسة العمل الصحفي في زمن لعب فيه الإعلام دوراً هاماً في كسر عزلة القبيلة. فيبدو اننا في العالم العربي قد استوردنا أجهزة الصحافة من مطابع وتكنلوجيا، غير ان آلية العمل الصحفي وفكره وممارسته ما تزال، في اغلب الأحوال، رهينة لثقافة القبيلة وشاعرها الذي تفترض فيه القبيلة ان يكون صوتها وحامي حماها. تطورت وسائل الطباعة الصحفية في عالمنا لكن مفهوم «النقد الذاتي» ما زال غريباً على وعينا وما زال لدى كثير منا عيب ونقيصة ربما تخرج صاحبها من انتمائه لقبيلته أو عشيرته. فما زال عند كثير منا نقد بعض قضايا القبيلة خارج إطار القبيلة خطيئة قد لا تغتفر وربما جريمة تستحق العقاب. هل كان تشرد الشعراء الصعاليك، مثلاً، ثمناً لخروجهم عن «المألوف» وعقاباً لتهمة قلة «الولاء» للقبيلة وأعرافها؟ نحن الذين نحارب من أجل ان يكون لنا صوت في الإعلام الأمريكي نواجه حربين: حرب من بني جلدتنا قوامها الجهل والحسد وحرب أخرى من جماعات أخرى لا تطيق ان يكون للعرب أي صوت في الإعلام الغربي حتى لا يصبح ذلك الصوت نافذاً ومؤثراً في المستقبل القريب أو البعيد. وهكذا نضيع بين ثقافتين وبين لغتين وبين عقليتين: فالكتابة للصحافة الأمريكية ليست كالكتابة للصحافة العربية وقارئ الصحافة الأمريكية ليس كقارئ الصحافة العربية، ومفهوم النقد ـ وخاصة النقد الذاتي ـ مبدأ يقدره القارىء الأمريكي ويحترمه ويزرع الثقة في الكاتب ويكسبه مصداقية واستقلالية تتطلبها آلية العمل الصحفي الأمريكي.

نريد ان يكون لنا صوت عربي في إعلام الغرب ولا يفهم كثير منا كيف يعمل ذلك الإعلام ولهذا تصبح الكتابة في الصحافة الأمريكية تحديداً، حينما يحترفها كاتب عربي، مغامرة كبرى ومخاطرة حقيقية لأنها طريق سهل لـ«سوء الظن». ويبدو اننا في العالم العربي مانزال نٌحمل الكاتب أو الصحفي أو المثقف فوق طاقته حينما نفترض فيه أن يكون صوت القبيلة، فنخلط بين المكاتب الإعلامية في السفارات العربية في الغرب تحديداً، وبين الصحفي المستقل الذي يحاول أن يبقى مستقلاً فلا يتحدث نيابة عن أحد ولا يمثل وجهة نظر رسمية ولا يكتب غير رأيه القابل للصواب والخطأ.

والمثقف أو الكاتب العربي القادر على الكتابة للصحافة الأمريكية ربما يجد نفسه في حالة دفاع ليس فقط ضد النقد والتحديات التي تواجهه في أمريكا ولكن ضد بعض من أبناء جلدته الذين يكتب عن همومهم ويدافع عن قضاياهم فكيف يمكن أن يكتب لنا أي نجاح في مخاطبة الآخر ومحاورته ونحن لا نستطيع ان نتخاطب مع بعضنا ولا نقوى على احترام اختلافاتنا في الرأي والتفكير؟

قد تلقي عدداً من المحاضرات وتشارك في كثير من المنتديات الفكرية وتكتب عشرات المقالات دفاعاً عن قضايا أمتك وهمومها ثم، ومن منطلق إيمانك بمبدأ نقد الذات، تكتب مقالاً فيه شيء من نقد الأنا والاعتراف باخطائها في صحافة تحترم الكتابة الجريئة التي تتجاوز رقابة الذات والمجتمع ، خاصة بعد ان ضاقت بك مناخات الكتابة الناقدة في محيطك الأول، تجد نفسك محاصراً باسئلة قاسية عن «انتمائك» وربما تسمع من يتهمك بالعمالة أو الطعن في حراك مجتمعك الثقافي. وهكذا نحارب، نيابة عمن يريد محاربة الأصوات العربية في الغرب، أي بادرة للحوار مع الآخر على ندرة هكذا محاولة.

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي في نيويورك وواشنطن، تعرض العالمان العربي والإسلامي عموماً الى نقد شديد في الإعلام الأمريكي خاصة بعدما تبين تورط عرب ومسلمين في ذلك العمل الإرهابي الأحمق، نقد في بعضه حق وفي بعضه الآخر ظلم. كان لا بد أن نفهم مسببات الغضب الأمريكي، على أغلب المستويات، وبدلاً من أن نتعامل مع ذلك النقد بعقلية تستوعب أسبابه وأسلوب التعامل معه بطريقة ربما أتاحت لنا فرصة ثمينة لأن نشرح مواقفنا وظروفنا وحقيقة أننا، كأغلبية في العالم الإسلامي، قد نكون ضحايا للتطرف السياسي والديني في عالمنا وأن ثمة محفزات دولية لهذا التطرف يأتي في مقدمتها الدعم الأمريكي للظلم الإسرائيلي ضد الأبرياء الفلسطينيين، سلكنا، كعادتنا، أسهل الطرق ووصفنا ما يكتب عنا بـ«حملة صهيونية» ومؤامرة غربية دبرتها ضدنا قوى الإمبريالية الدولية واصطف شعراء القبيلة صفاً واحداً للدفاع عن القبيلة في وجه القبيلة المعادية لنكتشف أن مشروعنا الصحفي الذي أردنا له أن يؤسس مفهوماً صحفياً عاقلاً يحكم المنطق ويرحب بنقد الذات لم يتجاوز بعد عقلية «شاعر القبيلة» الحماسي الذي يضع قبيلته، في الحق وفي الباطل، في اليسر وفي العسر، فوق كل القبائل وقبل أي منطق لكنه في الواقع يضلل قبيلته ويقودها الى مزيد من الهزائم. مشكلتنا الحقيقية ليست في النقد الموجه ضدنا في الغرب ـ وهو بالمناسبة نقد له أصوله وقواعده ويمكن التعامل معه والحوار مع أهله إذا تركت المسؤولية لأهلها وضمنا حماية من يتولى تلك المسؤولية من «سوء الظن» ـ ولكنها في أولئك الذين يتاجرون ويستثمرون في مآسي أمتنا ومصائبها منذ سنوات طويلة. وبحضورهم يغيب أي صوت عاقل يريد أن يصدق النصح لأمته وقيادة بلاده. مصيبتنا الحقيقية أن «حراس الرأي» في عالمنا يغلقون الأبواب والنوافذ في وجه أي صوت جديد ويصادرون أي بادرة وعي واعدة، غير أن المشكلة الأكبر هي ان ثمة من ينخدع بأولئك الذين يمارسون تضليلاً للأمة وقيادتها من أجل البقاء في مواقع التكسب على حساب الوطن والحقيقة! وأن تنتقد مواقع الخطأ في بلادك أو ثقافتك فإنك تمارس دوراً حضارياً وتقطع الطريق أمام أولئك الذين يتصيدون الفرص للإساءة لوطنك وقضاياه وتثبت للعقلاء هنا وهناك أننا ـ فعلاً ـ قادرون على حوار قياداتنا وقادرون حتى على الإختلاف معها بصدق وأمانة. وهكذا تأتي محاولات بعضنا للكتابة في الصحافة الأمريكية من مبدأ نقد الذات وشرح قضية «التطرف» والأساليب التي يمكن مواجهته بها لقارئ ليس بالضرورة على معرفة بتاريخ بلداننا وظروفها ورسالة موجهة لنا ولغيرنا بأننا، مثقفين ومسؤولين في العالم العربي، قادرون ـ بصدق ـ أن نشرح موقفنا وظروفنا لأنفسنا أولاً، وقادرون على مخاطبة الغرب عبر إعلامه القوي والنافذ جداً، وفينا من لا يخجل أن يعترف بأخطائه أو إشكالات ثقافته لأننا نؤمن أن الكمال للخالق وحده وعندها يعرف «الآخر»، الذي يحترم نقد الذات ويؤمن بأهميته لحضارة المجتمعات، بأن في قبيلتنا أصواتا ناقدة تستطيع التواصل بثقة مع الآخرين ولا تخاف أن تنتقد بعض عيوبها وتتجاوز أدوار شعراء قبيلتها في زمن ينجح فيه من يقدم صوت العقل والمعرفة على طنين الطبول وأكاذيب شعراء المدح والحماسة! هل لا بد أن نبرر دائماً لماذا نكتب كل سطر وكل كلمة في إعلام الغرب؟

وكيف يمكن أن نخوض هذه التجربة الصعبة وأيدينا على قلوبنا خوفاً ممن لا مهنة له ـ من بني جلدتنا ـ غير الاصطياد في المياه العكرة وتصيد الفرص للطعن في ظهور الناشطين فينا والتكسب على حسابهم؟

نشرت هذه المادة في جريدة الشرق الأوسط الدولية