محمد الرميحي
محمد الرميحي
محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت

شروط تأهيل الأسد!

آراء

السياسة مضادة للعاطفة، وحتى تفهم مسار السياسات، لا بد من البعد عن العواطف. هناك الآن ما يشير إلى تأهيل بشار الأسد في سوريا، هذا ما يتناوله المعلقون في الغرب، الذين حصلوا على شيء من المعلومات المسربة من قمة هلسنكي بين الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين يوم الاثنين 16 يوليو (تموز) الحالي. ولأن الاتفاق حدث بين «الكبار»، فهو أولاً لصالحهم، وعلى حساب جميع اللاعبين الآخرين. واضح من تطور الأحداث أن النظام العالمي يتغير، من تحالف القيم إلى تحالف المصالح. صلب الموضوع هو ما يراه الرئيس ترمب في العلاقة مع روسيا، ليس الآن ولكن منذ الحملة الانتخابية، فهو يسعى «لتحالف الكبار» حتى لو كان على حساب الحلفاء التقليديين. فالعلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا يجب أن تكون سوية وفي حالة تعاون وثيق. وعلى الرغم من حالة الارتباك لدى كثير من السياسيين الأميركيين حول «العلاقة بين إدارة ترمب وروسيا» التي يصفها بعضهم بأنها تواطؤ، وآخرون يصلون إلى توصيفها بأنها فعل «خيانة» للمبادئ التي تؤمن بها أميركا، فإن ترمب يعطي الجميع الأذن الصماء، ويعتقد أنه وبوتين يمكن أن ينظما العالم ليرقص على الأنغام التي يختارانها! وقد مهد لذلك في أكثر من مناسبة، آخرها قمة الناتو 11 – 12 يوليو.

في الشرق الأوسط، هناك لاعب مهم يعمل الطرفان على عدم إغضابه، إن لم يكن إرضاءه، هو إسرائيل. وقبل أيام من عقد قمة هلسنكي، كان بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي في موسكو للاجتماع ببوتين (الرجلان اجتمعا تسع مرات خلال الثمانية عشر شهراً الماضية). وبعد ذلك الاجتماع صرح نتنياهو: «ليست لدينا مشكلة في التعاون مع نظام الأسد في سوريا في المستقبل»، على العكس تماماً من مطالباته السابقة والمتكررة «بضرورة تغيير النظام».

الاتفاق الأميركي – الروسي حول سوريا هو تقريباً الآتي: لا مانع من وضع سوريا تحت الوصاية الروسية، على أن تضمن ابتعاد قوات الأسد عن الحدود الإسرائيلية، وخروج القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها من سوريا، وتوقيع اتفاق سلام دائم (سوري – إسرائيلي) في المستقبل، برعاية الطرفين (الدولة السورية في حالة حرب معلنة مع إسرائيل منذ عام 1948)، على أن تُقدم ترضية إلى إيران، أولاً معنوية من خلال إعلان أن طهران قد أنهت مهماتها هي و«حزب الله» بـ«انتصار بقاء الأسد»، فلا حاجة لبقاء قواتهم هناك، وثانياً ترضية مادية، حيث أعلنت روسيا أنها سوف تستثمر بشكل مباشر، خمسين مليار دولار في صناعة الغاز والنفط الإيرانية، كما وضعت روسيا على الرف (لعدم إزعاج إسرائيل) خططها المعلنة لتزويد سوريا بمنظومة الدفاع الجوي «إس 400» التي كان من الممكن أن تردع إسرائيل عن استهداف القوات الإيرانية والحليفة لها في الأراضي السورية!

تركيا، اللاعب الآخر في الساحة السورية، تهرول خلف روسيا، لعل بعضاً من النتائج الإيجابية في الاتفاق يصل إليها. همها الكبير تحجيم أي قوة كردية مسلحة تزعج حدودها الجنوبية. ويبدو أن ذلك متاح بالقدر الذي يطمئن تركيا للتعاون في تنفيذ الخطة المقترحة.

الخطوط الحمراء الجديدة لترمب هي «إخراج إيران وحلفائها من سوريا» كما قال في هلسنكي في المؤتمر الصحافي: «لن نسمح لإيران باستثمار انتصارنا على (داعش)». في الوقت نفسه تتمكن الإدارة الأميركية من سحب الألفين أو حولهما من القوات الخاصة في سوريا، ولا مانع من ترك سوريا بجانب أوكرانيا منطقة نفوذ لروسيا؛ لأن سحب القوات يعزز من انتصار الجمهوريين في الانتخابات النصفية في نوفمبر (تشرين الثاني) القادم. فقد قال مستشار الرئيس ترمب، جون بولتون: «إن بقاء الأسد في حكم سوريا لم يعد قضية استراتيجية للولايات المتحدة»، هذه التصريحات في تناقض تام مع سابقاتها، فحتى أبريل (نيسان) الماضي، كان ترمب يصف رئيس النظام السوري بـ«القاتل»، كما شن ضربات جوية، بجانب بريطانيا وفرنسا، في الشهر نفسه، على مناطق سورية عسكرية! تغيير جذري في الموقف الغربي بكامله، وتناسٍ لبحور الدم التي تسبب فيها النظام لشعبه. فمن أجل وقف القتال الذي استمر سبع سنوات في حرب أهلية ضروس، أميركا وروسيا وإسرائيل تتفق على حل في سوريا اسمه «بقاء نظام الأسد»! بعد تجريده من «أوهام المقاومة».

الدعم الأميركي لبعض القوى السورية يتراجع، فالإدارة كما وعدت الناخبين، لن تدخل في حروب، خاصة في الشرق الأوسط، الذي شهد كثيراً من الضحايا من الجنود الأميركيين. كما لم تعد أميركا بحاجة إلى نفط الشرق الأوسط، لتبقى أعينها مفتوحة رصداً للتطورات فيه، الأمر الذي يعني الوصول إلى اتفاق (يقع في خانة الفوز للقطبين الأميركي والروسي)، فروسيا يمكنها أيضاً أن تحتفظ بقوة بحرية في البحر الأبيض الدافئ، كما حلم القياصرة منذ زمن طويل!

على الرغم من الحرب الكلامية المشتعلة بين أميركا وإيران، وتغليظ السباب بينهما، فإن استراتيجية الأولى هي الضغط على الثانية من خلال المقاطعة الاقتصادية، التي سوف تنشط بعد أسابيع من اليوم، وعلى درجات متصاعدة. أما الحديث عن اشتباك عسكري بين الطرفين، فقد ترك ليلهو به السذج من السياسيين. إن المقاطعة الاقتصادية مهما اشتدت، فليس بالضرورة أن تغير النظام الإيراني، يمكن أن تضعفه، ولو أن احتمال التغيير قائم، إلا أن الاحتمال الآخر أن يقوم الإيرانيون بترضية ما لأميركا، كما فعل الكوريون الشماليون، من خلال الموافقة، من خلال طرف ثالث، قد تكون إحدى الدول الأوروبية، على بعض الشروط المعلنة، منها الانسحاب «الانتصاري» من سوريا، والتخلي عن دعم الحوثيين في اليمن، ولن يفقدوا كثيراً من الحجج عند قيامهم بذلك.

في حسابات الربح والخسارة السياسية حتى الآن، نجد أن إسرائيل هي الرابحة، فلها الاحتفاظ بالجولان كأرض إسرائيلية، وسحب الذريعة من كل من إيران و«حزب الله» في التوجه إلى العسكرة والتحشيد ضدها، فلم يعد أحد قادراً على ذلك، كما أن روسيا تحتفظ بأوراق رابحة، بعد كل الاستثمار العسكري الذي بذلته على الأرض السورية، ويستطيع ترمب أن يعلن انتصاره على الإرهاب ونجاحه في دعم إسرائيل، ومنع التوسع في إرسال الجنود الأميركيين إلى الخارج، وكلها أوراق رابحة في الانتخابات النصفية القادمة! الخاسر الكبير هو معسكر إيران وحلفائها، فقد انتزعت ورقة التوت التي كانت تسمى «مقاومة الشيطان الأكبر وإسرائيل»، فلم يعد لها منفذ بعد أن أصبحت سوريا محمية روسية، تضمن روسيا هدوءاً كاملاً للجبهات حولها.

أمام هذا السيناريو الذي وضعت خطوطه العريضة في هلسنكي، يتراجع تدفق المهاجرين إلى الدول المحيطة بسوريا، وإلى الغرب أحياناً الذي يضج من نزوحهم؛ إلا أن القصة لا تنتهي هنا، فبقاء الأسد في السلطة، وإن بدا دائماً، إلا أنه بالضرورة مؤقت، حتى ترتيب البيت السوري، الذي سوف يشهد نشاطاً سياسياً حميماً على وقع المايسترو الروسي من أجل تغيير تدريجي، يضمن لروسيا البقاء، كما يضمن لإسرائيل توطيد الحدود بكاملها، ويؤمن لأميركا مصالحها.

تلك هي الخريطة التي تبين بعض تفاصيلها حتى الآن، والاحتمالات الممكنة في المدى القصير. كل ما يمكن تلخيصه أن الشرق الأوسط بالذات قبل قمة هلسنكي سيكون غيره بعدها!

آخر الكلام: قد تنتج خطة السلام المقترحة في سوريا كما اتفق عليها الطرفان الأميركي والروسي، دينامياتها الخاصة؛ لأن الفواعل الأخرى سوف تتدخل من أجل تغيير في السيناريو المعد، ودون رضاء من شرائح واسعة من الشعب السوري، سوف تبدو الخطة وكأنها عمياء!

المصدر: الشرق الأوسط