عائشة سلطان
عائشة سلطان
مؤسسة ومدير ة دار ورق للنشر في دبي وكاتبة عمود صحفي يومي بجريدة البيان

ضجيج المدن الجميلة!

آراء

في الجمال، هناك جمال يضج بالحياة وجمال بارد باهت لا روح فيه، وكلاهما جمال؛ الفرق ليس في التفاصيل والملامح، ولكن في الأثر الذي يتركه هذا الجمال أو ذاك على نفوس وقلوب من يراه، والجمال لا يقتصر على البشر؛ فالله لم يخلق الإنسان جميلاً فقط، ولكنه خلقه في أحسن تقويم وأحسن صورة.

ثم إن جمال الإنسان فاتن ومغرٍ، وقد يقود المتأمل الشديد التمعن إلى التعلق به وعشقه والوقوع في هواه، وصولاً إلى ما هو أكثر من ذلك؛ فما الذي شغف زوجة عزيز مصر سوى جمال يوسف عليه السلام؟ إن من الجمال لفتنة، والفتنة في المدن كما في الإنسان، فهناك مدن تقع في هواها من النظرة الأولى، ومدن تمر بها فلا تلتفت إليها، الفرق في روح المكان وعذوبة التفاصيل!

لقد غادر بنو الأحمر آخر ملوك العرب مدينتهم الجميلة غرناطة عام 1492، غادروا قصورهم وحدائقهم الغنّاء، غادروا أحياءهم تاركين مفاتيح دورهم وحوانيتهم معلقة هناك لحين عودتهم؛ فقد ظنوا أن الهزيمة التي مني بها بنو الأحمر ليست سوى أمر طارئ، وأنهم سرعان ما يعودون، لكن الزمن مضى قرناً بعد قرن، ولم يعد بنو الأحمر إلى إسبانيا، إلا أن الحمراء بقصورها وجنائنها ونوافيرها بقيت، منارة جمال تشع عبر ظلمات القرون لم تنطفئ يوماً.

إن روح بني الأحمر التي سكنت تلك المدن لم تنطفئ، بقيت عذوبة التفاصيل الباهرة في قصور بني الأحمر تنادي العالم أن يأتي ليقف في محرابها شاهداً على جمال الروح التي شيدت وأبدعت، روح العرب العظماء!

تلك روح المدن، فما من مدينة تمشي في أزقتها وتعبر شوارعها وتحدث ساكنيها إلا ويبدو ماضيها شامخاً من خلال ذلك كله. التاريخ ليس عنصراً موازياً للموت أو النسيان؛ فمدينة بلا تاريخ هي مدينة بلا روح، ويحدث أن يوجد تاريخ لا يحرك فيك شيئاً، يقف ببلادة معلناً عن نفسه بحيادية تامة تشير إليه الصور وأصابع الأدلاء، وتمر عليه عيناك مرور الكرام هكذا وكأن شيئاً لم يكن!

وهناك تاريخ يعني الإنسانية كلها، وتاريخ يعنيك وتاريخ لا تتقاطع معه، في المدن والعمارة الإسلامية تسكن روح عظيمة تشهد عليها روائع لا تضاهى على مستوى العالم: قصر الحمراء في غرناطة، وقصر توبكابي (قصر السلطان سليمان) في إسطنبول، وحدائق شاليمار في لاهور، وتاج محل في الهند؛ ما من واحد منها إلا وتسكنه أرواح عظيمة ظلت تشع بعظمتها عبر القرون!

بالنسبة لكاتب يسافر عبر المدن والحضارات، فإن المدينة التي يكتب عنها هي تلك التي تسكنه أرواح أسلافها وعظمة ما خلفوه وما أنجزوه للبشرية، لا يمكنه أن يكتب عن مدينة لم تتغلغل إلى داخله. تلك المدن التي لا نكتب عنها هي المدن المحايدة الباردة، التي تسير بجانب أسوارها صامتة لا يحدث جمالها تلك الضجة الحميمة!

المصدر: صحيفة البيان