زياد الدريس
زياد الدريس
كاتب سعودي؛ كان سفيراً لبلاده في منظمة اليونسكو

عاصمة التعددية

آراء

ذهنية التخلف هي إحدى التمثّلات لغياب ذهنية التعدد والتنوع، ولسيطرة الذهنية الأحادية، الأحادية في الرأي الديني، والأحادية في الموقف الفكري، والأحادية في القرار السياسي.

(الأحادية) منظومة سلوكية متكاملة، لا نستطيع نزعها من مجال والسماح لها بالبقاء في مجالات أخرى. نهضة الغرب قامت على أكتاف التعددية ونبذ الأحادية، منذ أن فكّك الآباء المؤسسون للنهضة، في القرن السادس عشر وما تلاه، أعمدة الأحادية وبنوا عوضاً عنها أعمدة التعددية التي قام عليها بناء الغرب الحديث.

الثقافة العربية والإسلامية الحديثة لم تَحظَ للأسف حتى الآن بآباء مؤسسين كالذين حظيت بهم الثقافة الغربية، أو كالذين حظيت بهم الثقافة العربية والإسلامية في مجدها السابق، الذي انطلق من بغداد وانتشر من قرطبة غرباً وسمرقند شرقاً. لا يمكننا أن نُغفل محاولات النهضة التي جرت في القرن التاسع عشر من لدن مجموعة من المصلحين العرب، لكنهم لم يحققوا حلمهم وحلمنا بأن يكونوا (آباء مؤسسين) لنهضة عربية إسلامية حديثة، إما لخلل ونقص في أطروحاتهم الإصلاحية، أو لعدم ملاءمة الظروف السياسية حينذاك (مع سطوة الاستعمار) لتحقيق طموحاتهم النهضوية!

سجال التصنيفات الحزبية بين النخب العربية الآن هو نتاج طبيعي لأحادية التفكير والرأي. ويتم هذا وفق آلية بسيطة وواضحة: فإذا كان رأيك لا يوافقني فإني عوضاً عن مناقشتك حوله أو التعايش معه كرأي آخر، أقوم بحيلة تصنيفك، وهو ما سيجلب لي مناصرين لخوض (الحرب) ضدك وليس ضد فكرتك فقط، ثم سيؤول هذا التصنيف إلى إقصائك ونبذك إلى دائرة سوداوية معزولة، بحيث تصبح آراؤك كلها مصنّفة حتى قبل أن تقولها أو يسمعوها. إذن فخريطة الطريق (الحواراتي) عند كثير من نخبنا هي، بالتبسيط: اختلاف فتصنيف فإقصاء فنبذ.

تداعت إلى ذهني هذه الخواطر عشية انعقاد مؤتمر (الاتجاهات الفكرية بين حرية التعبير ومحكمات الشريعة) الذي ينظمه المجمع الفقهي الإسلامي في رابطة العالم الإسلامي بمقرها بمكة المكرمة.

انعقاد المؤتمر، وفي هذا التوقيت، يدعو إلى التفاؤل بإمكان حلحلة بعض العُقد في طريق التنوع الفكري الإسلامي.

التفاؤل ليس مردّه فقط المظلة الجامعة الكبرى التي تظلّله وتستضيفه في عاصمة الإسلام، وليس فقط المحاور الثرية والوافرة التي يزخر بها برنامج المؤتمر، ولكن فوق كل ذلك، التنوع الذي بدا في مشاركي وضيوف المؤتمر من مختلف التوجهات والأطياف التي يكتظ بها عالمنا الإسلامي.

كانت الصورة (الملونة) للصف الأول في قاعة الافتتاح تؤكد للمشككين أن راعية الحرمين الشريفين هي دولة تعددية، بحكم التاريخ أو بحكم الجغرافيا، وإن أساء لصورتها بعض أبنائها الإقصائيين باسم الدين أحياناً وباسم الوطنية أحياناً أخرى.

استيعاب التعددية هو أيسر الطرق إلى الوحدة.

المصدر: الحياة