على أن يكون الانفتاح مشروعاً لا خطوات

آراء

حتى تلك المصطلحات التي كنا نتحرج من استخدامها ونجتهد في البحث فيها عن بدائل يجب أن تعود الآن بكامل دلالاتها ومضامينها؛ ما يحدث في المملكة هو توجه تصحيح رشيد نحو مزيد من الانفتاح الواعي والترسيخ الفعلي للمزيد من الحريات وتوسيع الخيارات التي تمنح الحياة اليومية قيمتها على مستوى الفرد والجماعة، الإعلاء من شأن التنوع والاختلاف وحرية اختيار النمط السلوكي، الذي يصبح المرجع فيه هو النظام والقانون وتلك هي وظيفة الدولة الحديثة، وذلك هو عامل الاستقرار والنماء الأبرز في كل التجارب الوطنية المستقرة والمزدهرة؛ دعم التنوع وحماية الأنماط الحياتية المختلفة وضبطها بالنظام والقانون.

في مثل هذا المناخ يزدهر الاقتصاد الحقيقي، الاقتصاد الجديد والنوعي القادر على التأثير، الجمود السابق أوجد اقتصادا منتفخا غير إبداعي وأموالا ساكنة جامدة تركز على اقتطاع مساحات من الأراضي وتركها تتزايد أو بناء وحدات سكنية وتأجيرها، إضافة لتلك الأنشطة القائمة على التستر، أوجد ذلك الواقع ما يمكن تسميته باقتصاديات الانغلاق، استهلاك مفرط للحلال (كل ما هو جامد وغير خلافي وبالتالي غير تفاعلي ولا منتج) الأراضي، المساكن، السيارات والسفر والأكل والأنماط اليومية المكررة للحياة.

أدى الانغلاق لصناعة إيقاع اجتماعي يومي رتيب للغاية ويمكن أن تلاحظ بعض مظاهره في محافظات ومدن الأطراف؛ دعوات عشاء متبادلة نهاية الأسبوع لا مبرر لها، أقصى متعها أن يلعب الرجال البلوت في مجلس الرجال ويلتهم النساء أطنانا من الحلويات والقهوة وينتثر الأطفال للعب والصراخ، وفي آخر الليل تكتظ إشارات المرور بالسيارات الكبيرة التي تحمل كل الأسرة عائدين من تلك المناسبات المملة. منذ ما يقرب من عشرين عاما كسرت ظاهرة المولات التجارية شيئا من ذلك النمط، وأوجدت خيارا جديدا على مستوى الوجهة، فبدلا من البيوت أصبحت تلك المجمعات مقصدا أسبوعيا للعائلة إلا أنها لا تخرج عن خيارين: التسوق والأكل، أي المزيد من الاستهلاك وتراجعا لمختلف أشكال المتعة الطبيعية التي يعرفونها ويشاهدونها كلما خرجوا لأي بلد مجاور.

هذا المستوى من الاستهلاك لن يخلق مناخا للاقتصاد الإبداعي الذي يثري الحياة اليومية.

في الواقع حتى ما كان يظن أنه عزوف اجتماعي عن أي نمط جديد ممتع في الحياة اليومية هو في الحقيقة ليس كذلك، فالكثير من الشرائح الاجتماعية تأثرت مواقفها ورؤيتها بفعل تلك الخطابات المتشددة التي لا تجيد سوى التحريم والإنكار والممانعة، التي شوهت لدى الشارع قيمة الاختيار الحر المجرد، ولم يعد الرأي الشخصي والرغبة الشخصية هي الباعث على تحديد نمط الاختيار إنما بات النمط الجمعي المتأثر بخطابات الانغلاق هو المهيمن، ولذا بات السفر بالنسبة لكثير من السعوديين هو اللحظة الحقيقية للاختيار.

ومثلما كان الانغلاق عاملا مهما في تشكيل الحياة اليومية ينبغي الآن أن نجعل من الانفتاح عاملا أوليا في كل ذلك، بل وأن تتم إدارة معادلات الانفتاح وتأثيراته في تغيير النمط غير المنتج وغير الممتع إلى أنماط أكثر جمالا وتنوعا ومتعة.

هنا يمكن تحقيق جانب من ذلك الهدف العظيم الذي حملته برامج الرؤية وخطط التحول الوطني وهو: جودة الحياة. هذا العنوان الكبير والملفت للغاية يمكن تحقيق بعض جوانبه في شكل الحياة اليومية ورصد وتشجيع تنوع الإيقاع اليومي للحياة، سينعكس ذلك ليخلق اقتصادا جديدا نوعيا يقوم على المحتوى الثقافي والفني المحلي، ويعزز من الإقبال عليه واستهلاكه.

هذه معادلة لا يمكن أن تترك للصدفة ولا للتفاعلات الذاتية، بل هي بحاجة لإدارة يومية وتخطيط فعلي.

إن أعظم ما يوثق صلة الفرد في بيئته حين تلبي طموحه اليومي وتحوي أجمل ذكرياته، وقد جاءت اللحظة التي يجب أن تكون أجمل ذكريات السعوديين وأحلى أيامهم في وطنهم وليست في خارجه.

المصدر: عكاظ