سعود كابلي
سعود كابلي
كاتب سعودي

عن الـ Think Tanks الغائبة

آراء

حتى الآن لا توجد ترجمة واحدة معتمدة عربيا ومعترف بها تعبر عن مصطلح Think Tanks، فهي تترجم أحيانا مراكز فكر، أو مراكز تفكير، أو مصانع أفكار، أو خلية أفكار، أو حوض فكري أو غيرها كثير من الترجمات المختلفة. وفي أحيان يشار لها بأنها مراكز أو مؤسسات أبحاث ودراسة، ورغم أن هذه قد تكون ترجمة تعكس جزءا من عمل مثل هذه المراكز إلا أنه يظل هناك فارق بين مراكز ومؤسسات الأبحاث research institutions وبين “مراكز التفكير”Think Tanks، ويكمن الفرق الأساس في كون مراكز التفكير تعنى بالأساس بصناعة القرار وبأن تكون رافدا له، أيا كان ذلك القرار سياسيا أو اقتصاديا أو غيره، ففي بعض الدول هناك مراكز تفكير متخصصة وقد يكون تخصصها ضيقا ويتعلق على سبيل المثال بالتعليم أو الصحة أو الزراعة فقط. مراكز التفكير هنا تعنى بطرح حلول أو سياسات أو شرح معضلات وتفسير أحداث بعينها، في المقابل فإن مصطلح مراكز الأبحاث يعكس طيفا واسعا من تلك المراكز التي ليست معنية بالضرورة بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الراهن، فمراكز الأبحاث قد تكون معنية بتقدم العلوم البشرية دون الاهتمام بطريقة توظيفها على أرض الواقع.

هذا الفارق اللغوي وإن يراه البعض طفيفا إلا أنه يحمل بعض الدلالات، فإذا كانت اللغة – كما يقول ديكارت – هي الفكر منطوقا، فإن غياب اصطلاح لغوي واضح يعكس روح ما نسميه بمراكز التفكير؛ يصبح غيابا للمفهوم نفسه من عقلنا الجمعي، وبالتالي عدم استيعابنا لأهمية مثل هذه المراكز ودورها في الشأن العام على مختلف الأصعدة.

تقوم جامعة بنسلفانيا بإصدار تقرير سنوي عن تصنيف مراكز التفكير حول العالمGlobal Go To Think Tanks Report وهو يعد تقريبا أهم تقرير دولي عن هذه المراكز، ويتضمن قوائم بترتيب أفضل مراكز التفكير على مستوى العالم، أو مستوى كل إقليم، أو على صعيد تخصصات تلك المراكز. ويصدر هذا التصنيف من فريق مكون من حوالي 750 خبيرا من 120 دولة، إضافة لعدد كبير من المؤسسات، ويتم اختيار أفضل 100 مركز حول العالم من مجموعة تقارب 6600 مركز تفكير في 182 دولة. وفي 24 يناير الماضي صدر تقرير عام 2012 حول ترتيب هذه المراكز.

نتائج هذا التقرير كاشفة وفي غاية الأهمية أن نتنبه لها. فمن كل مناطق العالم تعد منطقة الشرق الأوسط أقل منطقة من جهة عدد مراكز التفكير “بها 339 مركزا، حوالي 5% من مجموع المراكز حول العالم”، ولا يقل عنها سوى منطقة أوقيانوسيا “أستراليا ومجموعة جزر المحيط الهادئ” التي بها 40 مركزا فقط، ومن ضمن مجموعة دول العشرين “G20” تعد السعودية الأقل في عدد مراكز التفكير بواقع 4 مراكز فقط! في حين أن أقرب دولة لها ضمن هذه المجموعة هي إندونيسيا بها 21 مركزا، تليها تركيا بواقع 27 مركزا، في المقابل فإن دولة مثل جنوب أفريقيا بها 82 مركز تفكير. وفي قائمة مراكز التفكير في منطقة الشرق الأوسط تقع السعودية في ذيل القائمة بعدد 4 مراكز بينما دول أخرى في المنطقة تحظى بوجود عدد كبير من مراكز التفكير: إسرائيل “54 مركزا”، مصر “34 مركزا”، إيران “33 مركزا”، العراق “29 مركزا”، فلسطين “28 مركزا”، اليمن “23 مركزا” عدا تونس ولبنان والكويت والمغرب والأردن والتي لا تقل عدد المراكز لديها عن 10 مراكز.

في واقع الأمر لم يدخل التصنيف من السعودية سوى مركز واحد فقط وهو مركز الخليج للأبحاث الذي حصل على الترتيب 147 من أفضل 150 مركزا حول العالم، وهو إنجاز كبير مقارنة بحقيقة أنه في تقرير العام السابق 2011 لم يتأهل أي مركز من السعودية لدخول التصنيف أو الوجود على القائمة. ولعل الأداء الجيد للدكتور عبدالعزيز صقر مؤسس المركز خلال العام الماضي كان سببا قويا في دفع المركز للقائمة إضافة لعدد من التقارير الجيدة التي قام المركز بنشرها مؤخراً. ولكن من جهة أخرى فإن مركز الخليج للأبحاث رغم كونه مركزا سعوديا بالأساس إلا أن مقره خارج السعودية “مؤسسة مسجلة ومرخصة في سويسرا”.

إسرائيل تقع ضمن أكثر 25 دولة حول العالم بها مراكز تفكير “54 مركزا” واحتل أحد مراكزها “INSS” الترتيب 108 على العالم، وتركيا دخلت القائمة بثلاث مراكز أعلاها في الترتيب “77” على العالم، بينما احتل مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية بمصر الترتيب “50” على العالم. وتتضح الصورة أكثر عند النظر لأفضل 40 مركز تفكير في منطقة الشرق الأوسط، ففي حين لم يمثل المملكة سوى مركز واحد “مركز الخليج”؛ نجد أن لإسرائيل “10” مراكز في هذه القائمة، بينما مصر لديها “9” مراكز وتركيا “4” مراكز.
التقرير في بدايته يضع تعريفا لمراكز التفكير على أنها تلك المؤسسات التي تعنى بالبحث والتحليل من منظور السياسات العامة، وبما يقدم استشارة أو رؤية مستنيرة لصانع القرار والرأي العام حول مختلف القضايا بحسب كل مركز، وهو ما يساعد متخذ القرار على اتخاذ قراره أو توجيه سياساته العامة، سواء تعلق الأمر بالسياسة الأمنية أو حتى سياسة التعليم وغيرها.

يظهر الأثر الكبير لهذه المراكز في الدول التي تنشط بها مراكز فاعلة، وتتفاعل معها الدولة وصانع القرار. في الولايات المتحدة – على سبيل المثال – يوجد 1823 مركزا ضمن القائمة، منها “5” مراكز من ضمن أفضل “10” مراكز تفكير حول العالم. وغالبا ما يتنقل السياسيون الأميركيون من مناصب الدولة إلى هذه المراكز، أو العكس؛ حيث يصعدون من هذه المراكز إلى مناصب في الدولة. ويعد ما تصدره هذه المراكز من تحليلات وتقارير رافدا مهما لصانع القرار هناك، يوليها الكثير من العناية والاهتمام.

في خريطة مراكز التفكير العالمية، نبدو في السعودية وكأننا غير عابئين بأهميتها أو غير مستوعبين للدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه، ليس فقط على صعيد السياسة الخارجية وإنما أيضا السياسات العامة الداخلية. على سبيل المثال، لا يوجد لدينا في المملكة مركز تفكير واحد متخصص في الشأن الإيراني رغم الأهمية الكبيرة للمسألة، وقد نوه لهذا الأمر الباحث السعودي المتخصص في الشأن الإيراني محمد صقر السلمي – صاحب مدونة شؤون إيرانية. وبالمثال تغيب مراكز في شؤون كثيرة مهمة كالنفط والتعليم أو حتى المراكز المعنية بالشأن السياسي الإقليمي والعالمي. مثل هذا الغياب يتطلب بداية منظومة قانونية تساعد على إطلاق مثل هذه المراكز وإتاحة الاستقلالية لها، والأهم من ذلك إيمان الدولة والمجتمع بأهميتها والدور الكبير الذي يمكن أن تؤديه في رفد منظومة صناعة القرار بشكل عام.

المصدر: الوطن أون لاين