عُود الشِّكِل!

آراء

عندما تحركت الحكومة الأميركية لإنقاذ ودفع كفالة مالية باهظة لإخراج عملاق السيارات جنرال موتورز من الإفلاس، كان الهدف الرئيسي هو إعادة «أيقونة» صناعة السيارات العالمية لواجهة المشهد لما تُمثّله من وجهٍ مهم من أوجه الهيمنة الأميركية، فضلاً عن تأثر مئات الآلاف من العوائل نتيجة تسريح عائليها من موظفي الشركة التي أُدرجت تحت قانون الإفلاس، كان الإنقاذ من حكومة أوباما عام 2009 مشروطاً بأمر واحد: إقالة الرئيس التنفيذي ريك واغونر!

لماذا هذا الشرط الغريب؟ لماذا يُقال رجل عالي التأهيل وطويل الخبرة و«ذَلِق» اللسان، السبب ببساطة أنّ الغرب لا يتعاملون بالعواطف، ومبدأ «أفا عليك عطه فرصة ثانية وبيبيّض ويهه»، واغونر هذا أدار الشركة التي كانت يوماً ما أكبر شركة سيارات في العالم لمدة ثماني سنوات رئيساً تنفيذياً، عندما كانت نزعة العملاء تتجه بوصلتها لاقتناء السيارات الصغيرة ذات الاستهلاك المنخفض للوقود كان هو لا زال مراهناً على السيارات الكبيرة لأنها «كانت من قبل» ذات هامش ربحي عالٍ، فكان فشله نتيجة طبيعية لأنه سار عكس كل المؤشرات، وبسبب سياساته «الطرزانية» فقدت جنرال موتورز 90% من قيمتها السوقية وتكبّدت خسائر مرعبة تجاوزت 82 مليار دولار في سنواته الأربع الأخيرة لوحدها!

مثل ريك واغونر الكثير، ولآرائهم المرجوحة العديد من المطبّلين، ولقراراتهم الارتجالية متملقون يدافعون عنها حتى لو بان مع الأيام عوارها، وكما يعرف المختصون بعالم الإدارة فإن هناك ما يُعرَف بمصيدة «القارب الغارق» والتي تعني ببساطة أنّ المدير الذي يتخذ قراراً خاطئاً ويخشى على «برستيجه» أكثر من خشيته على المؤسسة يَعْمَدُ إلى اتخاذ قرارات لاحقة تحاول «ترقيع» القرار الأول الخاطئ، فيكبر الخطأ ويتحول لمشكلة متجذّرة تمس كيان المؤسسة لا ربحيتها فقط، لذا كان شرط الحكومة الأميركية صارماً وعقلانياً!

العقلانية هنا لأنه وببساطة لا يمكن أن يكون «الفكر» الذي تسبّب في خلق تلك المشكلة الكبيرة هو الفكر نفسه القادر على إنقاذ المؤسسة منها، وعندما تريد الحصول على نتائج مختلفة لما يتم حالياً فمن الضروري أن تغيّر أحد مكونات المعادلة للأفضل، المؤسسات في الغالب لا تعاني إلا إن كان مَن يقودها تقول أوراق الـCV أنه محرك باثني عشر سلندر بينما الواقع أثبت أنه سلندر واحد ونص لا غير!

في الغالب أسهل طريقة للإبهار هي خفض النفقات، وهو الأمر الذي لا يبدو أنّ أصحاب «السلندر ونص» يعرفون سواه، وهي وإن كانت كطريقة مهمة لإيقاف الهدر المالي إنْ وُجِد، لكنها لا تصلح لأن تكون استراتيجية على المدى البعيد، فأنت تقوم بتخفيض النفقات لكي تبقى المؤسسة على قيد الحياة وتتعافى «مؤقتاً»، لكن النمو والتعافي «تنافسياً» يستلزم الابتكار والتفوّق على المنافسين بطرق غير معهودة.

يقول أعظم رئيس تنفيذي في القرن العشرين جاك ويلش: «أي أحمق يستطيع خلق أرباح في المدى القصير، سيقوم بِعَصْر المؤسسة وعَصْرِها ثم عَصْرِها حتى تغرق المؤسسة في غضون خمس سنوات»، ستغرق لأنها ستكون حتماً قد مَسَّت برامج حوافز الموظفين أو برامج التطوير للمنتجات أو نفقات الدراسات والبحوث، والأثر سيخرج سريعاً ليشعر به العملاء في جودة المنتجات أو الخدمات والمقابل الذي يدفعونه لها، حينها ستكون النتيجة الطبيعية هي انخفاض معدلات الرضا وبدء تغيير الولاءات لمؤسسات أخرى.

في موروثنا الأدبي قصيدة لشاعرة الإمارات بنت بن ظاهر تقول بعض أبياتها:

لي قِبْض عُـــــود الشِّكْل قمصان عاقل

خــــــَذْهــــــــا بـــــــــروفٍ لا اتِّســـــــــارى هدوبهــــــــا

ولي قبض عُود الشِّكْل قمصان جاهل

خــذهـــــــــا بـــــــــزورٍ وأرّث الشِـــــــــنْع ثــــــــــــوبهــــــــا

فالعاقل من يتعامل مع الأمور بحكمة، وإن استشكل عليه أمرٌ معين لم يتكبّر عن سؤال من هو أعلم منه وأكثر خبرة في ذلك المجال، والجاهل يظن أن القوة والشدّة هي الحل فيكون إفساده للأمور أكثر من إصلاحه لها، ولأن الأخطاء يختلف أثرها وحجمها بالمستوى الوظيفي للشخص فإنّه من الطبيعي أن تكون أخطاء مَن يعتلي السُلَّم أكبر وأشد فداحة!

الأخطاء المتكررة لا مكان لصاحبها في عالم الناجحين وذلك ما فهمته الحكومة الأميركية عام 2009 وحال جنرال موتورز وإدارتها، الآن حتى من لا يخطئ قد يجد نفسه خارج السوق لشراسة المنافسين غير المسبوقة والتي دَعَت بيل غيتس رئيس شركة مايكروسوفت لأنْ يقول: «في الوقت الذي تدرك أنك في ورطة يكون الأوان قد فات لإنقاذ نفسك»!

المصدر: البيان