د. عبدالله المدني
د. عبدالله المدني
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين

في سنغافورة.. خلاف على تركة «كوان»

آراء

هل تذكرون «لي كوان يو» الرجل الذي حول سنغافورة الخالية من أية موارد طبيعية من مستنقع آسن إلى دولة نموذجية في كل شيء تقريباً، وحقق لسكانها أعلى مستويات الدخل وأجود الخدمات والبنى التحتية في جنوب شرق آسيا، فباتت اليوم البلد الوحيد في آسيا المصنف خارج نطاق العالم الثالث؟ هذا الزعيم الحكيم، الذي صنع كل هذا المجد وفق خطة مدروسة ودون ضجيج إعلامي أو شعارات ديماغوجية أو تعبئة شعبوية كتلك التي مارسها قادة آسيويون آخرون مثل ماو تسي تونغ في الصين وأحمد سوكارنو في إندونيسيا والجنرال ني وين في بورما، توفي في مارس 2015 بعد أن تقاعد طواعية في عام 1990 عن العمل كرئيس للحكومة وزعيم لحزب العمل الشعبي الحاكم.

لكن قبل تقاعده كان «لي كوان يو» يخشى من أمر وحيد هو احتمال أن تصاب صورة سنغافورة النموذجية بتشويه ما مصدره سياسات متعجلة أو قرارات حماسية من قبل من سيأتون بعده. ولهذا السبب اختار بنفسه خليفته وهو ابنه الأكبر «لي هسين لونغ» وهو واثق بأن شعبه الذي ضحى وعمل من أجله على مدى خمسة عقود متواصلة لن يعترض ولن يأبه بمقولات الغرب المتكررة حول انعدام التعددية والحريات في البلاد، وسيظل مؤيداً لشعار «الاستمرارية والاستقرار السياسي والحزم في تطبيق القانون ضرورة للرخاء والتقدم الاقتصادي». وهكذا انزوى الرجل جانباً في منصب «الوزير المعلم»، يراقب ويرشد ويصوب الأخطاء عن كثب.

اليوم تعود سنغافورة إلى سطح الأحداث، ليس بسبب قلاقل سياسية داخلية أو أزمة سياسية خارجية كما اعتادت الدول الأخرى، وإنما بسبب خروج مشكلة عائلية محضة بين أبناء «لي كوان يو» إلى العلن. ومحور القصة أن الابن الأصغر للمؤسس «لي كوان يو» وشقيقته أصدرا بياناً ووزعاه على وسائل الإعلام يشتكيان فيه من تصرفات ودوافع شقيقهم الأكبر رئيس الحكومة «لي هسين لونغ» وزوجته «هو تشينغ» التي تعمل في التطوير العقاري والاستثمارات العقارية الحكومية، معربين عن خشيتهما من أن يلجأ الأول إلى استخدام نفوذه كرئيس للوزراء لهضم حقهما في تركة والدهم وهي عبارة عن منزل العائلة المتواضع.

وفي حين يدعي الابن الأصغر للمؤسس وشقيقته أن والدهما أوصى بهدم منزل العائلة بمجرد وفاته بدلاً من تحويله إلى متحف لمقتنياته الشخصية وسيرة حياته، يشكك رئيس الوزراء في مثل هذه الوصية، ويدعو الجهات القانونية المعنية إلى تشكيل لجنة، لا يمثل فيها أي من أفراد عائلة «لي كوان يو»، غرضها النظر في تدمير المنزل وتحويله إلى موقع أثري أو الإبقاء عليه. وفي الوقت نفسه أبدى رئيس الحكومة ألمه واستهجانه من طريقة تصرف شقيقه وشقيقته، ولكنه اعترض على فكرة تقديم بلاغ ضدهما بتهمة التشهير، قائلاً إن تلك الفكرة ستلوث سمعة مؤسس البلاد وباني نهضتها وستوسع من دائرة القيل والقال بين شعب لم يعتد على مثل هذه الأمور، وقد تقود إلى انقسام خطير في الرأي العام المحلي أو زعزعة ثقة الشعب في قيادته.

ولكن ما هو رأي السنغافوريين ووسائل الإعلام في هذه المشكلة التي ربما لم تدر يوماً في خلد «لي كوان يو»؟ كما يحدث في كل قضية انقسم السنغافوريون إلى ثلاث مجموعات. الأولى اصطفت إلى جانب رئيس الحكومة ووصفت قراره بالقرار الحكيم الذي يستهدف الحفاظ على القيم التي غرسها الأب المؤسس «لي كوان يو»، ويقي البلاد من البلبلة في الوقت نفسه، داعية أطراف النزاع إلى اللجوء إلى القضاء لتسوية الخلاف طبقاً للقانون. والثانية وقفت إلى جانب شقيق وشقيقة رئيس الحكومة، زاعمة أن هناك أموراً دفعتهما للجوء إلى وسائل الإعلام لطرح القضية على الملأ، مثل الخوف من استقواء «لي هسين لونغ» بالمؤسسات الرسمية للخروج بحكم قضائي يصب في صالحه.

أما الفريق الثالث فقد التزم الحياد قائلا إن الخلاف حول التركات أمر محتمل بين الورثة في كل عائلة، مضيفة أن عائلة «لي كوان يو» ليست استثناء، وبالتالي يجب أن ينظر إلى الموضوع من هذه الزاوية حصراً بمعنى عدم تحميله أكثر مما يحتمل مثل القول إن له انعكاسات سلبية على صورة البلاد في الخارج.

وجملة القول إن هذه القضية، لئن فشلت حتى الآن في الإضرار بصورة سنغافورة الفريدة كنموذج تسعى دول كثيرة إلى الاقتداء به، فإنها من جانب آخر ولدت تبايناً في مواقف المواطنين في وقت تستعد فيه البلاد لمواجهة استحقاق الانتقال السلمي للسلطة من الجيل الثاني من القادة إلى الجيل الثالث ضمن أسرة «لي كوان يو». ولعل الجزئية الأخيرة هي مربط الفرس أو الشرارة التي أشعلت الخلاف الدائر حالياً. ذلك أن مراقبين كثر يرون أن الصراع حول تركة الزعيم المؤسس ليس سوى غطاء لصراع من نوع آخر حول من سيحكم سنغافورة مستقبلًا؟ هل هو الابن الأصغر للزعيم «لي كوان يو» الذي يشغل حالياً منصب الرئيس العام لدائرة الطيران المدني أو هو ابن رئيس الحكومة الحالي واسمه «لي هونغ في» والمعروف بطموحاته السياسية ووقوف والديه خلفه لتصدر المشهد في السنوات المقبلة من تاريخ سنغافورة.

المصدر: الاتحاد