محمد شحرور
محمد شحرور
مفكر إسلامي

“فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ”

آراء

خاص لـ هات بوست :

تأتي أهمية التنزيل الحكيم لمن يؤمن به، من كونه كتاب جمع بين رسالة مرنة يصدق عليها قرآن يقرن قوانين الكون مع أحداث التاريخ، في تداخل متقن يشابه إلى حد كبير تداخل وظائف أعضاء جسم الإنسان، حيث الناموس ذاته والخالق واحد.

ويأتي سرد القصص القرآني ليشكل حيزاً كبيراً من الكتاب، لا بهدف تسلية الرسول (ص)، ولا لرفد المناهج المدرسية بمواضيع تغني موادها، بل ليقدم لنا خطوطاً عريضة تلخص قوانين التاريخ، وتبين لنا خط سير الإنسانية تدريجياً في ابتعادها عن المملكة الحيوانية، ومن ثم استخلاص العبر{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف 111).

ومن بين شخصيات القصص يأخذ إبراهيم عليه السلام مكانة مميزة، إذ دعانا الله تعالى لاتباع ملته الحنيفية {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام 161)، وتنبع أهمية مكانته من كونه رسخ مبدأ التجريد في التقرب من الله بدلاً من التشخيص، ولم يتوصل إبراهيم للإيمان بالله إلا بعد أن بدأ رحلة تفكير طويلة من الشك إلى اليقين، لجأ عبرها إلى اتباع الاستقراء العلمي، فراقب ظواهر الطبيعة ولم يقنعه أفول ما ظن أنها آلهته، حتى توصل إلى الله، لكن الشك ظل يراوده فسأل الله عما يختلج في نفسه {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة 260)، ولم يخيب الله ظنه (حاشاه) ولم يستنكر سبحانه عليه السؤال بل حاوره بروية حتى اقتنع، والأكثر من ذلك أنه جعله إماماً للناس {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} (البقرة 124) والإمامة سلوك يقتدى به، ولم يستخدم الله تعالى مصطلح “الأمة” عن فرد واحد إلا مع إبراهيم{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ} (النحل 120) فهو رائد في اللجوء إلى الله بعد تدبر وصل به إلى اليقين.

كذلك فقد شكل تعامل إبراهيم مع قومه سلوكاً يحتذى، إذ حاورهم بالحسنى وتبرأ من شرك أبيه واستغفر له، ورغم الظلم الذي واجهه، لم تلتو إرادته فحطم الأصنام وانتهى على يديه وإلى الأبد ما كان سائداً من تقديم قرابين بشرية فداءً لآلهة لا تنفع ولا تضر، وطهر البيت مما سفك فيه من دماء، ووضع أساساً لعبادة الله الواحد دون غيره.

فإذا تجاوزنا إبراهيم ووصلنا إلى محمد (ص) وجدنا في سلوكه قفزة تاريخية نوعية، فقد كابد الأمرين ليدشن عصر المدن، بما يحمله من مساواة وتعددية وتحطيم للأصنام بكل أشكالها، وتكريس الحرية كقيمة عليا مثلت إنسانية الإنسان، عدا عن فبوله للآخر المختلف صديقاً أم عدواً، فاستحق لأن يكون كما أرسله الله “رحمة للعالمين”.

ونحن إذ نذكر إبراهيم في صلواتنا كل يوم ونذكر حفيده رسولنا الكريم محمد (ص)، لا يتجاوز ذكرنا هذا القول كترداد لما حفظناه، وقد لا أستطيع التعميم على حالنا كأفراد، وإنما كأمة، فنحن في سلوكنا الجماعي لم نقتد لا بإبراهيم ولا بمحمد، فمعاهدنا ومدارسنا وجامعاتنا تخرج آلاف الطلبة سنوياً لكنها لم تخرج عالماً واحداً خلال القرن الفائت وما تلاه من قرننا هذا، فالمبدأ المتبع في التدريس هو التلقين والحفظ، ابتداءً من معاهد تحفيظ القرآن وانتهاء بكبرى المدارس، ولا مناهج بحث علمية ولا استقراء ولا إحصائيات ولا من يحزنون، ولا أعتقد أن أئمة مساجدنا يتقبلون أي سؤال من مستفسر خارج عما هو مألوف، فالتفكير حرام واتباع العقل يؤدي إلى طرق مسدودة، والآبائية سلوك معتمد لا يمكن الشذوذ عنه، وكل من يحاول التحليق خارج السرب سيتهم بالكفر والزندقة، ابتداءً مني كاتب هذه السطور وليس انتهاءً بأي سائل، أما الأصنام فحدث ولا حرج، فالمساس بأبي هريرة يتجاوز في أحيان كثيره المساس بكتاب الله، حيث أصبح مصطلح “القرآنيين” تهمة تودي إلى السجن في بعض الأحيان.

وإذا ما تكلمنا عن قبول الآخر فنحن في حال من الشرذمة والطائفية والعشائرية لا نحسد عليها إطلاقاً، ناهيك عن التطرف الذي لا يبتعد عن كونه نتاج مجتمعات منافقة تتخذ من الدين الوسطي ستاراً للتعصب والعنصرية، فتكفر هذا وتنبذ ذاك، وتتهكم على الناس في ابتعاد تام عن أخلاق الإسلام وقيمه.

فما آن لنا أن نجعل من إبراهيم إماماً كما أراده الله لنا؟ وما آن لنا أن نتخذ من الرسول أسوة حسنة كما أمرنا الله؟ أم سنبقى نرزح في المستنقع الذي نحن فيه؟