د. السيد ولد أباه
د. السيد ولد أباه
كاتب وأستاذ جامعي موريتاني، له كتب ودراسات عديدة منشورة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديمقراطي.

قانون «جاستا» والعلاقات الدولية

آراء

في رسالته إلى الكونغرس لشرح اعتراضه على مشروع قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب» (جاستا)، اعتبر الرئيس الأميركي «أوباما» أن من شأن هذا القانون حالة إقراره أن يعرض الأمن القومي الأميركي للخطر بانتهاكه مبدأ سيادة الدول، ويقوض مبدأ الحصانة السياسية الذي هو من مقتضيات الدبلوماسية العالمية الحديثة.

لا يمكن الفصل بين هذا المشروع الغريب وجملة من التحولات النظرية والمعيارية بدأت منذ العقدين الأخيرين تغير قواعد السلم الدولي التي وضعتها الإنسانية لترتيب العلاقات بين الدول. ومعلوم أن نشأة الدولة القومية الحديثة المرتكزة على مبدأَي السيادة والإقليمية واكبه اتجاه متنامٍ إلى الضبط القانوني للعلاقات الدولية. وفق هذا التحول تبلور منطلقان أساسيان لترتيب النظام الدولي هما: احترام مبدأ السيادة المطلقة للدول، ومنع الحرب العدوانية الهجومية، بما يعني حصر العنف المشروع في عنف الدولة السيادي داخلياً وعنف المقاومة ضد العدوان الخارجي.

وظل الإشكال الفلسفي الكبير الذي شغل المفكرين السياسيين الأوروبيين منذ كانط هو كيف يمكن تعميم قواعد السلم الأهلي إلى الإطار الدولي بما يعني إمكانية قيام سلطة عليا تنتظم العلاقات الدولية وفق قواعد قانونية كلية. إنه الإشكال الذي لخصه الفيلسوف الألماني هيغل في فلسفته للقانون عندما بين تمكن القانون المدني الوطني من إقامة سلطة عليا كلية تتسم بالشرعية وتوكل لها مهمة حفظ السلم الأهلي وترتيب العدالة، فإن العلاقات بين الدول لا تزال تحكمها «حالة الطبيعة» بما هي حالة صدام وفتنة وصراع.

ومعروف أن المدونة المعيارية للعلاقات الدولية اصطدمت منذ بداية القرن التاسع عشر بنمط جديد للحروب هو «حروب التحرر الوطني» في مواجهة الظاهرة الاستعمارية الحديثة المنبعثة من المنظومة التنويرية التي تولدت منها القيم الليبرالية للثورات السياسية والدستورية الغربية.

وهكذا نُظر إلى حركات المقاومة الوطنية كوقوف ضد مشروع تحرير الشعوب من «التخلف» و«البدائية»، ومن ثم فهي لا تدخل في نطاق الحروب الدفاعية المشروعة!

وفي القرن العشرين اصطدمت هذه المدونة المعيارية بنمط آخر غير مسبوق من الحروب هو «الحروب العالمية» ذات الطابع التدميري الهائل. ومن هنا ندرك وعي القوى الدولية الكبرى بضرورة وضع نظام مؤسسي دولي لحفظ السلم العالمي في مرحلة استقطاب دولي واسع تحكمه توازنات الردع المتبادل.

وبعد نهاية الحرب الباردة بدا للوهلة الأولى أن العلاقات الدولية سائرة باتجاه «السلام الأزلي» الذي راهن عليه فلاسفة التنوير الأوروبي، بيد أن اتجاهات مقلقة بدأت تتسلل إلى خطاب العلاقات الدولية في مرحلة اتسمت بسمتين جديدتين هما: انفجار الصراعات الأهلية في العديد من الساحات التي عرفت مصاعب الانتقال السياسي من أنظمة الاستبداد إلى حالة التعددية السياسية (حروب البلقان وأفريقيا جنوب الصحراء وحروب «الربيع العربي») وتوسع موجة الإرهاب العابر للحدود.

ومن أبرز هذه التحولات الدلالية الجديدة عودة قاموس «الحرب العادلة» بمفهومها اللاهوتي القديم الذي ينيط شرعية الحرب بغاياتها «الأخلاقية» وليس بالشرعية الإجرائية للمؤسسات الدولية، بما يعني النكوص نحو صراع القيم والمرجعيات الحضارية الذي لا سبيل لحله ولا حسمه (برز هذا الاتجاه في حرب العراق عام 2003).

ومن هذه التحولات انتهاك مبدأ التمييز بين الحقلين المدني والعسكري في المجال الحربي. وانتهاك مبدأ التمييز بين آلية العقوبة في الجريمة الجنائية ومنطق الحرب التي تقتضي المواجهة بين طرفين سياديين، وانتهاك التمييز بين المجالين الأخلاقي والقانوني في ضبط المجال العمومي.

ومن انعكاسات هذه الاختلالات المصطلحات المثيرة ذات الشحنة اللاهوتية والأخلاقية التي طغت على الخطاب السياسي الغربي (الأميركي على الأخص) في السنوات الأخيرة، مثل «محور الشر» و«الدول المارقة» و«حروب الحضارات».

ليس «قانون جاستا» على غرابته سوى مرحلة من مراحل هذا المسار الذي عرفته منظومة العلاقات الدولية في مدونتها المعيارية وخطابها الدلالي، وهو تطور لا يعرِّض أمن منطقة الشرق الأوسط وحدها للخطر، وإنما يهدد السلم الدولي كله بما فيه السلم الأميركي نفسه.

المصدر: الإتحاد