علي عبيد
علي عبيد
كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة

قبل غزوة باريس وبعدها

آراء

قبل الهجوم عليها، لم تكن مجلة “شارلي إبدو” تطبع أكثر من 60 ألف نسخة باللغة الفرنسية فقط، تبيع نصفها في أحسن الأحوال، ويعود الباقي مرتجعا عبر شركة التوزيع. بعد الهجوم طبعت المجلة 5 ملايين نسخة، بست عشرة لغة من بينها العربية، نفدت من الأسواق بحلول الساعة الثامنة صباحا من اليوم الذي صدر فيه العدد.

قبل الهجوم عليها، كان سعر النسخة من “شارلي إبدو” ثلاثة دولارات ونصف. بعد الهجوم وصل سعر النسخة إلى أكثر من 600 دولار في المزادات التي أقيمت عليها في الإنترنت، بعد أن نفدت نسختها المطبوعة، وصار العديد من أصحاب الأكشاك الباريسية يرددون لزبائنهم “لم يعد لدينا أعداد”.

قبل الهجوم عليها، لم يكن قد اطلع على الرسوم المسيئة التي نشرتها مجلة “شارلي إبدو” عام 2011 سوى عدد قليل، وربما في فرنسا فقط. بعد الهجوم أعادت معظم وسائل الإعلام في أنحاء العالم نشر الصور، إما تحديا للمهاجمين، أو إشباعا لفضول القراء والمتابعين.

قبل الهجوم على مجلة “شارلي إبدو” تجمع نحو 17 ألف متظاهر من مؤيدي الحركة الاحتجاجية “اوروبيون وطنيون مناهضون لأسلمة الغرب” في مدينة “درسدن” الألمانية.

بعد الهجوم شارك أكثر من 3 ملايين و700 ألف شخص في مسيرة ضد الإرهاب الذي أصبح لصيقا بالمسلمين، طافت مختلف أنحاء فرنسا، وتخطتها إلى عدة عواصم أوروبية ومدن أميركية وعربية، تضامنا مع ضحايا الإرهاب.

قبل الهجوم على “شارلي إبدو” أعلن رئيس الوزراء الفرنسي “مانويل فالس” أن الجيش سينشر في فرنسا ما بين 200 إلى 300 عسكري إضافي، لتعزيز الأمن في الأماكن العامة، بعد أن كان قد نشر 780 عسكريا على الأراضي الفرنسية خلال أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية.

بعد الهجوم قال وزير الداخلية الفرنسي “بيرنار كازنوف” إن 88 ألفا من رجال الشرطة والجيش يشاركون في العملية الأمنية على مستوى البلاد، بعد أن احتجز الأخوان شريف وسعيد كواشي رهائن في مطبعة بقرية “دمارتين آن جويل” شمال شرقي باريس.

قبل الهجوم على “شارلي إبدو” كانت بعض الدول العربية تسعى إلى الحصول على إعفاء من تأشيرة “شنغن” والسماح لمواطنيها بدخول دول الاتحاد الأوروبي دون تأشيرة، وكان البرلمان الأوروبي يصوت لصالح إعفائها.

بعد الهجوم ارتفعت أصوات في البرلمان الأوروبي تطالب بإعادة العمل بالحدود الوطنية، قائلة إن إلغاء الحدود بعد معاهدة “شنغن” سهّل توافد المهاجرين إلى أوروبا، وإن هذه الهجرة المكثفة والفوضوية تخدم وتسهل نشاط الأصوليين الإسلاميين الذي يصبون عقائدهم في عدد من ضواحي الدول الأوروبية.

سوف نسلّم جدلا بنظرية المؤامرة التي يكثر الحديث عنها عند كل حادث من نوع حادث الهجوم على مجلة “شارلي إبدو” الأخير، ولكن ألسنا نحن أول المتآمرين على أنفسنا، وأكثر من يعمل على تشويه صورة ديننا الذي ننتفض عندما يقترب الآخرون من صورته، أو يسيئون لبعض رموزه، فنسيّر المظاهرات في الشوارع، وننظم الوقفات أمام السفارات، ونطالب بأخذ الثارات من أصحاب الإساءات؟

الإساءة للأديان والأنبياء جميعا، واحتقارهم والسخرية منهم، مرفوضة من الجميع، وأولهم نحن المسلمين الذين يقول لنا قرآننا “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ”. ولكن كيف نتعامل مع الذين يسيئون إلى ديننا ونبينا؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا، قبل أن نتخذ أي ردة فعل على مثل هذه الإساءات.

سئل الشيخ محمد متولي الشعراوي، رحمه الله، مرة عن رأيه في كتاب ألفه أحد المستهزئين بالإسلام، كثر الحديث عنه في التسعينيات من القرن الماضي، فرد قائلا: لم أقرأه ولن أقرأه! فقالوا له: كيف وقد كثر الكلام عنه؟

فقرأ عليهم قول الله تعالى في سورة النساء: “وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا”.

اعملوا بوصية عمر الخطاب رضي الله عنه: “أميتوا الباطل بالسكوت عنه، ولا تثرثروا فيه فينتبه الشامتون”، وعودوا قليلا إلى الوراء، قبل الهجوم على مجلة “شارلي إبدو” الذي سماه بيان تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب “غزوة باريس” المباركة، لتستعيدوا بعض هذه الغزوات ونتائجها: قبل إهدار دمه، كان عدد الذين سمعوا عن “سلمان رشدي” وروايته “آيات شيطانية” محدودا جدا.

بعد إهدار دمه صار سلمان رشدي وروايته الهزيلة ملء سمع العالم وبصره، وأخذت الجوائز تنهال عليه من الدول والمنظمات باسم حرية الرأي، ونكاية بالذين أهدروا دمه ومنعوا روايته.

قبل محاولة اغتيال “نجيب محفوظ” من قبل متشدد بسبب فتوى أصدرها الشيخ عمر عبدالرحمن، اتهم فيها “نجيب محفوظ” بالردة وأباح قتله، لم تكن رواية “أولاد حارتنا” تلقى الرواج الذي لقيته بعد محاولة الاغتيال، حتى غدت إحدى المؤلفات التي تم التنويه عنها عند منح “نجيب محفوظ” جائزة نوبل للآداب عام 1988.

ردود فعل كثيرة ومتباينة، أثارتها “غزوة باريس” التي قد نختلف إن كانت مباركة أو غير مباركة، لكن الذي لا يمكن أن نختلف عليه هو أن ما بعد “غزوة باريس” لن يكون مثل ما قبلها، تماما كما أن ما بعد “غزوة منهاتن” لم يكن مثل ما قبلها، إذ تغير وجه التاريخ والجغرافيا، وكنا نحن العرب والمسلمين أكبر ضحاياها، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

المصدر: البيان
http://www.albayan.ae/opinions/articles/2015-01-19-1.2290961