محمد النغيمش
محمد النغيمش
كاتب متخصص في الإدارة

قياس إنتاجيتنا بميزان السيراميك!

آراء

قَسَّمَ أستاذ متخصص في فن تصنيع السيراميك طلبته إلى مجموعتين؛ اليسرى طلب منها أن تصنع قطعاً من السيراميك بحيث يتم تقييمها بصورة رئيسية على أساس «الكمية» المنتجة، أما المجموعة اليمنى فسيتم تقييمها على معيار «الجودة» المنتجة. فانطلق الفريقان في تنافس محموم.

وبينما هم يشرعون في التصنيع أخبرهم الأستاذ بأن تقييمهم سيكون على النحو التالي، حيث سيأتي بميزان ليزن ما تم إنتاجه من مجموعة «الكمية»، وسيعطي لكل 50 كيلوغراماً يتم إنتاجها درجة «A» ولكل 40 كيلوغراماً درجة «B». أما مجموعة الجودة، فسوف يمنحها درجة الامتياز «A» إن هي أنتجت قطعة واحدة من السيراميك شريطة أن تكون ذات جودة فنية عالية.

ولما حان وقت التقييم جاءت الصدمة، إذ تبين أن المجموعة التي طلب منها التركيز على الإنتاج «الكمي» كانت قد أنتجت كميات ذات جودة عالية جدا. في حين لم تتمكن مجموعة «الجودة» من إنتاج أي قطعة!

وبعد بحث وتمحيص تبين أن هذه المجموعة قد أهدرت أوقاتها في التنظير والتخطيط والتأمل على حساب الشروع في الإنتاج، فيما اتضح أن مجموعة «الكم» قد استفادت من أخطائها الإنتاجية الأولى؛ إذ كانت عملية الإنتاج الكمي فرصة لاستفادتها من أخطائها، فتكون لديها لاحقا مهارة بالغة في التصنيع السريع المتقن لقطع السيراميك التي أبهرت الأستاذ والطلبة أنفسهم.

هذه القصة ليست خيالية، لأن مغزاها يعكسه واقع الحال في كثير من المجتمعات، فكم من آلات في مصانع لم يتوقف هديرها إلا بعدما أتقنت منتجها، فصارت تنافس فيه بضراوة أشهر منتجات الأسواق، منها هاتفي البديع الذي أكتب لكم منه مقالاتي! وكم من موظف أو مدير جلس يضرب أخماسا بأسداس أملا في بلورة الصورة «المثالية» في ذهنه لمشروعه أو تقريره فداهمه الوقت ولم ينجز ربع طموحه.

مشكلتنا حينما نصاب بداء «المثالية الزائدة» (Perfectionazim) نؤجل لحظات البدء بحجة الاستعداد أو التفكير وننسى أن العمل الإنساني مهما كان متقناً، فإن نقصاً ما سيشوبه لا محالة، لأن الكمال لله وحده. وهذا لا يعني ألا نجعل الحديث الشريف الخالد «إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إذا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ»، نصب أعيننا، لكن الحرص على الإتقان حينما يؤجل البدء بالإنتاج يؤجل معه النتيجة. فتخيل لو أن شخصاً ما يقضي معظم ساعات نهاره في تأمل ما هو العمل التعبدي أو الحياتي المثالي وينسى الشروع بالعمل الذي هو في الأصل ميدان التعلم الحقيقي.

والشعوب الواعية تتعلم من أخطائها، لأن الخطأ خطوة في طريق النجاح؛ ولذا كان من الحصافة الموازنة بين الصورة الذهنية المنشودة للإتقان وبين عجلة الزمن التي لا تنتظر أحدا.

وعليه، فقبل أن نسوف أو نبالغ في التخطيط، لنضع قراراتنا في ميزان السيراميك حتى لا نراكم أطناناً من الساعات من دون إنتاجية ملموسة.

المصدر: البيان