(كلارا) صاحبة اليد البيضاء

آراء

إبان دراستي بأكاديمية الفنون بفلورنسا، نشأت صداقة بيني وبين زميلة لي من أهالي (سان مارينو)، وهي بالمناسبة لا تمت للجمال بأية صلة، ولكنها على شيء من الخلق، وهذا هو ما جعلني أرتاح لها، ولأول مرة أسمع باسم هذه الجمهورية التي تعتبر أقدم وأصغر جمهورية في العالم.

وكنت في تلك الأيام هاويًا لجمع الطوابع، وعندما لاحظت هي شغفي بجمعها أغرتني بالذهاب إلى هناك، خصوصًا وهي تعرف المصادر بأقل الأسعار، وهذا هو ما حصل عندما ذهبت برفقتها، وساعدتني، جزاها الله خيرًا، في شراء مجموعة لا بأس بها، وبعتها فيما بعد بربح مجزٍ، وكانت تلك هي أول وآخر صفقة تجارية رابحة في حياتي.

وقد أخذت هذه الجمهورية اسمها من رجل يقال له (مارينوس) وكان يعمل بقطع الحجارة، وهو الذي أسسها، وعندما توفي عام (360) ميلادية ترك لهم وصية جاء فيها: إنني أفارقكم يا قومي وأنتم أحرار، فلا يستعبدكم أي إنسان.

وعندما لاحظ (نابليون) صغر مساحتها التي لا تزيد على (ستين كيلومترًا مربعًا)، أراد أن يمنحهم مزيدًا من الأراضي ليتضاعف حجمها عدة مرات، رفضوا ذلك قائلين: لن نأخذ شبرًا واحدًا زيادة عن أراضينا ولن نفرط كذلك ولا في شبر واحد منها.

وظلت على الحياد خلال الحرب العالمية الأولى وكذلك الثانية، غير أن (موسوليني) بصلفه وحماقته أرغمها إرغامًا على أن تعلن الحرب على الحلفاء بجيش لا يزيد تعداده على (عشرين رجلاً)، ومع ذلك بعثوا برسالة سرية إلى (تشرشل) فحواها أن يد موسوليني الحديدية هي التي أرغمتنا على ذلك، لهذا تركها الحلفاء ولم يدخلوها وسلمت من التدمير وويلات الحرب.

وعدد سكانها لا يزيدون على ثلاثين ألفًا، ودخلها يعتمد على الطوابع وزراعة بعض المحاصيل وعصر النبيذ وقلع الحجارة.

وهي الجمهورية الوحيدة في العالم التي لا يريد أي من سكانها أن يكون رئيسًا، لهذا إذا رفض أحدهم أن يتولى هذا المنصب فرضت عليه غرامة كبيرة، ومدة الرئاسة لا تزيد على ستة أشهر، لهذا قلما توجد عائلة فيها لم يتقلد أحد من أفرادها هذا المنصب غير الشرفي.

وقد حاول بعض الجهابذة إغراء سكانها بفتح (كازينو) أو نادٍ للقمار لتكون على شاكلة إمارة (موناكو)، وفي كل عام يطرحون هذه الفكرة للاستفتاء، وتنتهي بالرفض القاطع.

أما اليوم وبعد تبدل الأحوال وتطور السياحة، أصبح فيها كثير من الفنادق، وارتقى دخل الفرد فيها متجاوزًا الفرد الإيطالي.

وقد هزني الشوق بعد عدة عقود لزيارتها مرة ثانية، وفعلاً ذهبت قبل أربعة أعوام، ومررت على منزل زميلتي (كلارا) أسأل عنها، وعرفت أنها اتكلت على الله – أي ماتت -، فترحمت على من ذقت المكاسب لأول مرة في حياتي على يديها.

المصدر: الشرق الأوسط