محمد شحرور
محمد شحرور
مفكر إسلامي

كل عام وأنتم بخير

آراء

خاص لـ هات بوست :

منذ أيام ابتدأ عام جديد، وسادت الاحتفالات في العالم لاستقباله، على أمل أن تتحقق الأمنيات خلاله، واحتفلنا نحن العرب أيضاً وأملنا كغيرنا أن يحمل العام الجديد السلام والخير لبلادنا وأهلنا.

لكن الاحتفالات على اختلاف حجمها، تلقى دائماً بعضاً من الرفض لأسباب عديدة، أولها فيما يخصنا هو “الحرام”، وفي حالة العام الميلادي فالحرام يغلف الاحتفال من كل جوانبه، على اعتبار أنه مناسبة تخص المسيحيين ولا تخصنا، وأن التقويم الغربي لا يعنينا، عدا عن أن الفرح في ثقافتنا أمر منبوذ.

والتقويم الغربي هو تقويم اعتباري لرأس السنة، يعرّف العام بأنه دورة كاملة للأرض حول الشمس، تعتمده أغلب دول العالم، ونحن المسلمين المؤمنين بالرسالة المحمدية، نعيش منتشرين في أصقاع الأرض، كغيرنا من الناس، نؤرخ بما يؤرخ الناس حولنا ونعد سنين عمرنا كما يعدون، لا يمكننا أن ننفصل عنهم في شؤون حياتنا اليومية، ولا يفترض بنا ذلك، لنا تقويم هجري معتمد نحتفل ببدايته وكل ما يتبعها من مناسبات خاصة بنا، أما تعاملاتنا في المدارس والجامعات والمراسلات والعلاقات الخارجية والاقتصادية فتتطلب اعتماد ما يسهل أمور حياتنا، دون أن نرتكب “حراماً”، وهذا يجرنا إلى مواضيع متشعبة عدة، منها أن الحرام شمولي أبدي بيد الله وحده، لا يزيد ولا ينقض، وتختصره محرمات محدودة معدودة لا تتجاوز الأربعة عشر، تتعلق بتعاملنا مع الغير، عدا الشرك بالله، فهو عقائدي لا يقتصر على الإيمان بالله الواحد دون إله سواه، بل يتجاوز إلى الاعتقاد بأن الثبات لله وحده، وكل ما عداه متغير متبدل متعدد، والاختلاف سنة الله في خلقه، وعلينا لكي نضمن الاستمرار كمجتمعات الاعتراف بهذا الاختلاف وقبول الآخر المختلف، والإيمان بالتطور والسير قدماً، لا الثبات في قرون مضت.

ومن ناحية أخرى فإن التنزيل الحكيم اعتمد “الحول” كوحدة قياس لدورة الأرض حول الشمس {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (البقرة 233) أما السنة مفتوحة متغيرة قد تكون ما نعرف وقد لا تكون {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (السجدة 5) وبينما السنة غير معرفة يأتي العام معرف دائماً، فنحن ودعنا عام 1918 معرفاً بميلاد السيد المسيح، ونقول ولد الرسول في عام الفيل مثلاً، وإذا كان الحول شمسياً فإن الأشهر في التنزيل قمرية {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (يونس 5) حيث كل شهر يعود القمر إلى موضعه في دورانه حول الأرض، ويكون الحساب في التعديل على الأشهر بحيث تتواكب السنة الشمسية مع الأشهر القمرية.

ومن جهة ثالثة أصبح عيد رأس السنة عيداً اجتماعياً، لا يختص بشرق وغرب أو مسلم وبوذي، ومن حق كل مجتمع أن يحتفل بالعيد الذي يشاء كما يشاء، وليس كل احتفال يعني ارتكاب الفواحش، ولا السُكر والرذائل، ومن حق الناس أن تفرح وتسعد دون أن يكون فرحها مذموماً بحجة غضب الله، فالله تعالى لا يسره حزننا، وليس إلهاً سادياً كما صوروه لنا، بل إله رحيم رؤوف بعباده، وقوله {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد 20) لا يحمل ذماً للحياة الدنيا، وإنما بيان لمجالاتها، فاللهو انتقال من حال إلى حال، وكلما زادت مجالات اللهو زادت ممارسة العبادة طاعة ومعصية، ومن لا يلهو لا يحيا أو يعيش في سجن إنفرادي، وتشبيه الحياة الدنيا بالغيث يدل على الرضا، إذ لم يرد “الغيث” إلا حاملاً الرحمة، على عكس المطر الذي يحمل العذاب والسخط، وهي “متاع الغرور” فلا تصل إلى الكمال وإنما تتحرك بين صعود وهبوط، في حين كرست الثقافة الموروثة في أذهاننا أن الله سيعاقبنا حتى على ضحكنا، وكلما زاد إيمان “المؤمن” زاد اكفهرار وجهه، ونسوا {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف 87)

والاحتفال بعيد رأس السنة لا يعني أنك أصبحت “نصرانياً” وإذا هنأت جارك “النصراني” بعيد الميلاد كذلك، فتمنياتك له في عيده بالخير لا يعني أنك شاركته في عقيدته، علماً أن الإسلام هو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، والاختلاف بين الملل هو في الشعائر لا غير، وحتى لو كان الاختلاف كبيراً فالفصل بيننا على الله لا علينا، وعلاقتنا مع الناس تبقى ضمن القيم الإنسانية والمصالح المتبادلة، أما طريق الله فإنه “بعدد أنفاس الخلائق”.

أخيراً فلتعلموا أن كل إنسان حر أن يحتفل أولا يحتفل، وكفى شعوبنا ما تعانيه من بؤس وفقر وجوع وحروب، فلا نستكثر عليها حتى فرح عابر.

كل عام وأنتم بخير.