عائشة سلطان
عائشة سلطان
مؤسسة ومدير ة دار ورق للنشر في دبي وكاتبة عمود صحفي يومي بجريدة البيان

كيف تفكر الجماهير؟

آراء

في عام 1895، أصدر الكاتب الفرنسي غوستاف لوبون كتابه الشهير «سيكولوجية الجماهير»، وبعد أكثر من مئة عام قامت دار الساقي بترجمته للمرة الأولى، وذلك عام 1991، فحقق نجاحاً باهراً، قاد إلى طبعات عديدة لاحقاً، وهنا فليس صحيحاً أن ظهور الكتاب ارتبط عربياً بأحداث ما يسمى «الربيع العربي»، حيث ظهر الكتاب قبل اندلاعها بسنوات طويلة، إلا أن الكتاب في موضوعه كتاب في غاية الأهمية، من حيث المجال الذي يهتم بمناقشته وتفكيكه، خاصة الفكرة التي ارتكز عليها، والتي يمكن تلخيصها بأن الجماهير لا تناقش الأفكار التي تعرض أو تقدم لها بالعقلانية التي نتصورها أو نطالبها بها، إنها تقبلها كما هي أو ترفضها كما هي اعتماداً على قوة وتأثير من يقدم لها الأفكار!

يسمي علماء السياسة تبني الجماهير للأفكار دون تمحيص ونقاش ومن ثم تحويلها إلى قناعات وبرامج عمل وحياة وحركة بالاتجاه الغوغائي، بينما منذ ما بعد الثورة الفرنسية وجد غوستاف لوبون أن هذه سيكولوجية متأصلة في الجمهور، حيث يرى أن قادة الرأي والزعماء السياسيين أو الدينيين هم في الحقيقة جديرون بالثقة، وأن اتباعهم واجب دون نقاش، لأنهم يعلمون أو يعرفون أكثر من الجماهير غير المؤهلة إلا للاتباع وتريد ما يقدم لها أو أحياناً رفضه! من هنا اشتهر الهتاف الغوغائي عند كثير من الشعوب «بالروح بالدم نفديك يا زعيم»، ذلك أن الأمر ينتقل من مجرد تصديق الأفكار إلى تحويلها لقناعات عظمى يندفع الناس للتضحية بأنفسهم من أجلها بدون تفكير!

تمارس مواقع التواصل الاجتماعي اليوم هذا الدور المحرض على إلغاء التفكير والنقاش لدى جماهير واسعة في الشارع العربي، مستخدمة المنبّهات الإيديولوجية والسياسية والاجتماعية الكامنة في العقل اللاواعي للجماهير العربية المنشأة بشكل وطريقة محددة في علاقتها بالدين والسياسة، وهذا ما يفسر الصراعات والمعارك الشرسة على مواقع التواصل بين تيارات دينية وسياسية معينة، أو نجاح التحريض وإثارة الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية، وتبنّي الناس لها بدون تبصر أو أدنى تفكير، برغم مخاطر هذه الأفكار وتهافتها وتناقضاتها، بل مخاطرها الوجودية على الناس التي تنادي بها وتدافع عنها!

هناك تيارات دينية معروفة، وأحزاب طائفية بعينها، وأنظمة محددة وظفت سيكولوجية الجماهير هذه وحولتها إلى وقود حقيقي لمعارك طحنت الأخضر واليابس في أوطانها وأعادت المنطقة سنوات إلى الوراء، لذلك برغم تقادم الزمن، فإنه يمكن اعتبار «سيكولوجية الجماهير» كتاباً تبصيرياً وضرورياً ومتجدداً ولا غنى عنه، رغم النقد الذي وجه له من قبل من يرى أنه ألغى عقول الناس وحولهم إلى مجرد قطعان لا ترى إلا ما يراه قادتهم وموجهوهم!

المصدر: البيان