لا أحد سيخوض حروبنا سوانا

آراء

حينما تدعو إيران وأتباعها المسيسون أو الغافلون من العرب إلى «التشيع» الضيق، علينا أن نكتفى بالدعوة إلى الإسلام الواسع، وليس إلى «التسنن».

إن حاجتنا ــ كعرب الآن، وفى ذروة تحديات هائلة لأمننا القومى والوطنى، ولهويتنا العربية، إلى فهم الشأن الإيرانى وتحولاته الداخلية والخارجية. وأن هذا الفهم، لا يقل أهمية عن حاجتنا إلى التفكر، فيما لا يفكر فيه، فى سيناريوهات مستقبل العلاقات العربية ــ الإيرانية، تفاهما أو تنافسا أو صداما.

لنعترف أننا ــ كعرب صادقنا أو عادينا إيران طوال أكثر من ثلاثة عقود ونصف، من دون أن نملك خريطة معرفية للمجتمع الإيرانى، وللنظام السياسى والحكم والعسكرة والاقتصاد والمزاج الشعبى، والعقل والتفكير، والمرأة والشباب، ونقاط القوة والضعف فيه.

لا نعرف نسق التحولات، ولا الفوارق بين المؤسسة الدينية التقليدية الغاربة، وتلك المؤسسة الدينية السياسية البراغماتية الحاكمة.

كثير منا، مازال يذكر «البازار» فى تحليلاته السياسية ويستشهد بدوره القديم فى المشهد المجتمعى، ويظن أنه مازال حيا يُرزق، ولا ندرى أنه تلاشى على مستوى التأثير والدور، لصالح «اقتصاد الثورة» و«بازارات» الحرس الثورى.

مرت تحولات جذرية تمت شرعنتها ودسترتها وتوَحد الدينى مع المدنى، فى مؤسسة بيت المرشد ــ القائد، وتبلورت هوية جماعية، امتزجت فيها الدولة القومية والمذهب، وتشكلت هيكلية لنظام محكوم بتراتبية قيادية وسياسية، وضابط إيقاع، هو المرشد، يضبط الخلافات والرؤى السياسية، ولديه هامش كبير للمناورة، «ضابط إيقاع» لكل المؤسسات الفاعلة.

مرت وجرت تحولات فارقة لم ندرك جوهرها ومآلاتها، وظلت ثقافتنا ومعلوماتنا لا تتعدى قراءات صحفية، وتقارير تنشرها مراكز غربية.

ومما يثير الدهشة، أن فى طهران وحدها أكثر من عشرة مراكز بحثية مختصة بالدراسات العربية، فى حين ليس لدينا ــ كعرب ــ بما فيها إقليم الخليج ــ مركز بحثى متخصص فى الشئون الإيرانية.

وتنطبق الحال على غياب مراكز بحثية عربية متخصصة بالشأن الأمريكى، رغم كل هذه الصداقات والتحالفات، وحتى العداوات مع أمريكا.

ولا أحد يسألنى عن مراكز بحثية عربية فى الشئون الصينية أو اليابانية أو الهندية أو الروسية، فهى غائبة تماما.

ولا أدرى كيف يستطيع صناع القرارات العربية بلورة سياساتهم الاستراتيجية تجاه هذه القوى العظمى والكبرى من غير دراسات علمية صارمة ومتماسكة وخيارات وأوراق موقف، وخبراء عرب مختصين وعارفين فى هذه الشئون.

قال لى أحد الظرفاء من المفكرين العرب: «ربما بالبركة أو الفهلوة أو بقراءة الفناجين، وربما فى أحسن الأحوال، بـ «الدراسات المستوردة»، على طريقة «الأمن المستورد».

***

فى مؤتمر «المائدة المستديرة» التى نظمها مركز الإمارات للسياسات قبل أيام فى أبوظبى، حول تحولات المشهد السياسى فى إيران، على ضوء الاتفاق النووى والانتخابات التشريعية. شعرت بشىء من البهجة، وأنا ألتقى عددا من الباحثين والمهتمين بالشأن الإيرانى، بنوا قدراتهم المعرفية بأيديهم وبفكرهم وثقافتهم، وبحسهم العروبى والوطنى، واكتشفوا أن المشهد السياسى الإيرانى، على الرغم من كل تعقيداته، ومزاجه الذى تجسده أطروحة «أُستر ذهبك وذهابك ومذهبك»، فإنه قابل للقراءة. للقراءة العارفة والناقدة.

من الواضح أن استقطابا هائلا ظهر ما بين ما يسمون محافظون وإصلاحيون ومعتدلون ومستقلون فى الانتخابات التشريعية، التى شهدت مشاركة شعبية واسعة، تشكلت تحالفات وكتل برلمانية، اختلط فيها الإصلاحى والمحافظ والمعتدل، لكن لم تشهد الانتخابات ونتائجها أغلبية مطلقة، لأى من التيارين الرئيسيين، ولم يكسب تيار روحانى وتكتله الوسطى أو المعتدل برلمانا معتدلا، مثلما نجح خاتمى فى أن يكسب برلمانا إصلاحيا، أو مثلما نجح أحمدى نجاد فى أن يكسب برلمانا محافظا.

«تصارع» الجميع حول ملفات الاقتصاد والخدمات ومعيشة المواطنين وتداخلت الأسماء والتوجهات، وظل الجوهر على حاله فى ظل «ضابط الإيقاع» لكل المؤسسات الفاعلة، من برلمان ومجلس خبراء ومجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام، وحرس ثورى… إلخ.

ليس من المتوقع أن تحدث تغييرات أساسية فى سياسة إيران الخارجية، والتى للبرلمان فيها دور ثانوى، فى حين أن من يقرر الحسابات والسياسات الإيرانية، هى مكونات ثلاثة رئيسية، هى المرشد والحرس الثورى ومجلس الأمن القومى.

إن الإصلاحى أو المحافظ أو المعتدل، لا يعارض عمليا العلاقات الإيرانية مع الغرب، وبخاصة أمريكا، لكن المشكلة بينهم تكمن فى تحديد الوكيل الحصرى لهذه العلاقات، ومن سيجنى ثمار هذه العلاقات.

صورة روحانى شعبيا، مقبولة، بعد أن قدم نفسه معتدلا، ورئيسا، نجح فى رفع العقوبات وإبعاد خطر الحرب عن إيران، وطرح برنامجا لإصلاحات اقتصادية، وانفتاحا وحوارا مع الغرب، وأصبحت إيران مقبولة كلاعب كامل الصلاحية إقليميا ودوليا، ومعترفا بها كقوة ذات قدرات نووية، وصارت حرة فى تحركها تجاه ملفات فى إقليم الشرق الأوسط الكبير، الممتد إلى ما وراء الهضبة الإيرانية باتجاه باكستان وأفغانستان، وحتى غرب آسيا ومنظمة شنغهاى، وفى اتجاه بناء تحالفات ومصالح مع روسيا، وربما تركيا أيضا، رغم اختلافهما السياسى والعسكرى فى الساحة السورية.

البراغماتية والصبر، ورشاقة الحركة، وكتاب «الأمير» لمكيافيلى، والنزعة التدخلية، وأوهام إمبراطورية غابرة، و«أُستر على..»، كلها عناصر فى كتاب صناعة النسيج السياسى متعدد الألوان والأبعاد والصور. وقد آن الأوان لفهم صحيح لجارٍ دائم ومستقر فى الجغرافيا، لا تستطيع أن تقيم «جبالا من نار» بينك وبينه، ولا تستطيع ترحيله إلى ما وراء الهضبة والجبال، بعيدا عن سهول الرافدين وتضاريس جبلية ومراكز حضارية عربية.

فكَ خاتمى الإصلاحى «عُزلة» إيران، قبل سنوات، حينما خاطب المجتمع الدولى بلغة العصر، وصار نجما فى سماء الفلسفة والفكر والعقلانية، وطرح مبادرته «الحوار بين الحضارات»، فاعتمدتها الأمم المتحدة، واستضافه الأستاذ الراحل محمد حسنين هيكل فى مزرعته فى «برقاش» ذات يوم، بحضور أهل القلم والفكر فى مصر، ليحدثهم عن إيران، وعن السياسات العالمية، وفكرة الحوار.. كان خاتمى يعرف العربية تماما، إلا أنه أصر على التحدث بالفارسية، وقام الكاتب الإيرانى من أصل عراقى محمد صادق الحسينى، بترجمة الحديث إلى العربية. «هل فهمنا هذه الرسالة فى حينها».

وقبل أسابيع كان روحانى يطوف أوروبا، يروج لمبادرات تجارية أوروبية فى أسواق إيران، لتعويض ما خسرته أوروبا لصالح روسيا والصين، وها هو السباق الأوروبى قد بدأ. شركتا «إيرباص» و«بوينغ» ومجموعة «إينى» الإيطالية النفطية، وشركات تكنولوجية وأسلحة وعقارات.. إلخ، والبابا يستقبله فى الفاتيكان.

المصالح هى التى تحكم وترسم خطوط السياسات الخارجية، وقد كانت أمريكا وشركاؤها يتفاوضون مع إيران فى مسقط بشأن الاتفاق النووى، فى وقت كانت فيه أمريكا تحشد حاملات الطائرات فى بحر العرب والخليج.

سمعنا وسنسمع محافظين متشددين إيرانيين يشككون فى صدقية الغرب وأمريكا، ويقولون «إن الانفتاح أمام الاستثمارات والشركات الأجنبية سيقضى على تقدم إيران»، وسيؤثر فى «الاقتصاد المقاوم»، وسمعنا أن المرشد الأعلى يحذر الإيرانيين، ويطالبهم «بتجنب الاختلاط بالأجانب»، ويعبر عن خشيته من أن يؤدى رفع العقوبات والانفتاح إلى «انفلات زمام الأمور».

وكل هذه الشعارات هى على غرار «الموت لأمريكا» الشعار السابق، للاستهلاك المحلى، ولأغراض التعبئة المستدامة «الثورة مستمرة»، ولتقليل منسوب «التنازلات»، وزيادة «الأرباح»، وتعظيم الفوائد والغنائم أثناء المفاوضات.

***

من ناحية أخرى، فإنه من المفيد معرفة الرؤية الأمريكية والأوروبية تجاه إيران فى المرحلة الراهنة، وفى المستقبل المنظور، ويمكن تلخيصها فى إعادة إنتاج مفهوم «الاحتواء»، باعتبار أن الرفع التدريجى للعقوبات، سوف يدفع إيران إلى الاندماج فى الاقتصاد الدولى، وسيؤدى هذا الانفتاح إلى تدفق سلع استثمارية وثقافية بقيم غربية، ستؤثر على الأجيال الشابة التى تتطلع إلى الرفاهة والاستهلاك وتطوير قوانين توفر بيئة مناسبة لمزيد من الانفتاح والاندماج، ومواجهة البطالة وإحياء النظام المصرفى، وتنويع الاقتصاد، وتشغيل البلد المعطل.. إلخ، وفى الوقت نفسه، هناك حاجة أمريكية استراتيجية لدور إيرانى فى أفغانستان وباكستان وأواسط آسيا «وهى حاجة روسية أيضا»، لمواجهة تهديدات التطرف الإسلاموى، وكبح أو موازنة التمدد الاقتصادى «الصينى الهندى»، فضلا عن دور إيرانى مرن، فى إقامة «نظام أمن إقليمى»، يسمح لدول عربية خليجية المشاركة فيه.

أما الرؤية الخليجية «وإلى حد ما العربية» للعلاقات مع إيران، فقد ظلت طوال السنوات العشر الأخيرة «وربما بعد الاحتلال الأمريكى للعراق، واكتشافنا المفاجئ للآثار السلبية لهذا الاحتلال، وللتسليم الأمريكى، بدور إيرانى منفرد للهيمنة على العراق». ظلت رؤيتنا تحمل الكثير من التعويل على «الضغوط الغربية والأمريكية على إيران، أو «فشل المفاوضات النووية» أو «الخيار العسكرى الأجنبى ضد إيران» أو «استمرار الحصار الدولى على إيران»، أو حتى الرهان على وهم «الحصان الإصلاحى».. إلخ.

اليوم… سقط كل هذا التعويل، أو انتهى نهاية غير سعيدة، مع «استدارة» أمريكية باتجاهات أخرى.

اليوم.. لا أحد فى الغرب أو أمريكا، سيقتنع بدعوتنا للتحالف معنا لمواجهة إيران، ولجم اندفاعتها نحو النفاذ إلى الساحات العربية.. وبالتالى نحن مطالبون كإقليم خليجى، وبعمق عربى، التوافق على استراتيجية متماسكة للتعامل مع إيران. اليوم حديثنا مع الغرب حول عوار الديمقراطية فى الانتخابات الإيرانية هو بضاعة خاسرة.

الإيرانى فى دولته، وفى جغرافيته غير مهدد، فى حين أن إقليم الخليج العربى، يدفع اليوم أثمان زلازل ضربت الوطن العربى، وأطاحت بركائز استقراره ونسيجه المجتمعى، وترابه الوطنى.

اليوم.. ما يتمزق هو الكيانات العربية الوطنية، القتيل واللاجئ والمهجر والركام.. كله عربى.

نعم… هناك اليوم ما سماه أحد الكتاب «تمرد خليجى» على سياسة التدخلات الإيرانية، لكن السؤال هنا، هل يمكن أن يتحول هذا «التمرد» إلى يقظة عربية لاستعادة توازن الإقليم؟ إن انخراط مصر فى هذه اليقظة ضرورة استراتيجية، وربما أطراف عربية أخرى «وليس تركيا كما يروج البعض عن جهالة أو غرض»، «يقظة واستراتيجية شاملة، سياسة وإعلاما ودبلوماسية وحقوقا ومجتمعا مدنيا، وأمنا وفكرا»، وتفعيل «المسار الثانى» الذى أهملناه منذ عقود.

***

ومن الحكمة ألا ننشغل ونستهلك جهدنا وصدقيتنا فى محاولة تشويه حضارة فارسية عمرها أكثر من خمسة آلاف سنة، أو أن ندخل مع إيران فى صراع مذهبى مكشوف، ومن الحكمة العمل لإعادة الاعتبار للمرجعية الشيعية الأساس فى النجف، وحينما تدعو إيران وأتباعها المسيسون أو الغافلون من العرب إلى «التشيع» الضيق، علينا أن نكتفى بالدعوة إلى الإسلام الواسع، وليس إلى «التسنن».

وإذا كانت إيران تدافع عن الشيعة العرب، فعلينا أن ندافع عن المسلمين كافة، ونعبر حدود الطوائف والمذاهب والأعراق، ونواجهها بخطاب سياسى واصلاحات تنشغل بالمواطنة المتساوية وبحقوق الإنسان، واحترام القوانين الدولية، وحدود الدولة الوطنية، وبدبلوماسية وقائية استباقية، وقراءة واقعية للمشهد الإيرانى فى الداخل وفى الإقليم، وفى الساحة الدولية.

لا أحد سيخوض حروبنا وينسج علاقاتنا سوانا.. منذ زمن ونحن نتساءل: «هل تعلمنا الدرس؟»

المصدر: صحيفة الشروق