لا شيء يغير وجه التاريخ

آراء

تناول الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، في أحد كتبه، خضوع الفكر المجتمعي في استقراء التاريخ لمحددات تدور حول تضخيم صور الأحداث والشخصيات التاريخية، لتأخذ قيمة أكبر من قيمتها الحقيقية، ولتتحول الأحداث الاعتيادية إلى بطولات في الأذهان، وبالتي تُحجز ذاكرة الأفراد لمصلحة هذه القصص التاريخية، وتجعلها دائمة الحضور في أقوالهم وردات أفعالهم.

يحفل تاريخ الأمم بأبطال وهميين لا وجود لهم، تم اختلاقهم لتحقيق المجد الزائف للدول، كتلك الشخصيات التي تنسب إليها الاختراعات واكتشافات القارات، فإعطاء كريستوفر كولومبوس ـ مثلاً – فضل اكتشاف القارة الأميركية ما هو إلا تسجيل وهمي لأحقية أوروبا بالقارة الجديدة، كما تختلق البطولات التاريخية وأساطير الفرسان الشجعان، الذين يواجهون بمفردهم الجيوش ويهزمونها، بهدف منح الشعوب رصيداً معنوياً يقتاتون عليه كلما أحسوا بالضعف.

أما تهويل الأحداث التاريخية، وتحويلها إلى حكايات متكررة تستنبط منها الدروس، فيعتبر – كذلك – أمراً اعتيادياً في ثقافات الشعوب، فمنذ حروب الرومان الأولى وحتى الحربين العالميتين، ستجد من يصف معركة بأنها غيرت مجرى التاريخ، ولو كانت هذه المعركة بين قبيلتين من 100 رجل، وامتدت نصف نهار، وقد يكون المؤرخ صادقاً، من منظوره الشخصي، كونه ابن القبيلة التي كسبت المعركة أو خسرتها، فالمنتصر سيكرر قصة هذه المعركة ليفخر بها، والمنهزم سيكررها ليستنهض الرغبات بالثأر والانتقام، والمفارقة المضحكة هنا أن الإنجليز يحتفلون سنوياً بذكرى معركة «واترلو»، التي يقال عنها – هي الأخرى – أنها غيرت مجرى التاريخ بهزيمة نابليون بونابرت أمام الإنجليز، وفي المقابل، لم ينسَ الشعب الفرنسي، رغم مرور 200 عام، مرارة الهزيمة، وثارت ثائرته بعدما أعلن الاتحاد الأوروبي عزمه على إصدار فئة نقدية لتخليد ذكرى معركة «واترلو».

إذن كيف نحكم على صدق أحداث التاريخ وشخصياته؟ يتحدث هنا المؤرخ الفرنسي جون بيير فرنان، قائلاً: «إننا ندرك الحقيقة التاريخية فقط عندما نبتعد بانتمائنا عنها، هذا البعد يتيح لنا تفكيك الحقيقة والتنديد بالأوهام»، كل الدلائل تشير إلى أن المجتمعات ستظل تكرر قصصها التاريخية المهوَّلة، وتستشهد بعبارات مثل «وامعتصماه»، لتدلل على قيمة أخلاقية معينة، بغض النظر عن السيرة الذاتية لقائل هذه العبارة، وصدقية ما قدمه دفاعاً عن العدالة، والسبب في رأيي أن استرجاع القصص التاريخية المرتبطة بالعدالة من الذاكرة أسهل بكثير من فهم القواعد المنطقية والفلسفية التي تُعرِّف العدالة وتأطرها، ولهذا نرى أنه كلما حل خطب في الأمة صاح أحدهم باحثاً عن المعتصم.

خطورة الاستعاضة بالتاريخ عن القاعدة تكمن في عمل المقارنات المغلوطة، والمقاربات المضللة، فالحاكم الصالح، كما يطرحه تاريخنا، هو من كان يحج عاماً ويغزو عاماً، أما القواعد المنطقية فتُعرّف الحكم الرشيد بقدرة قيادات الدولة ورجالها على توفير الرفاهية لشعوبها، وحفظ استقرار أوطانها، ولا يتأكد صدق إنجازاتها بالقصص، بل بمؤشرات تعكس مستوى الدخل، والتنمية، ونسب الأمية، ومعدل الجريمة، وكفاءة الخدمات، وجودتها.

المصدر: الإمارات اليوم