يوسف الديني
يوسف الديني
كاتب سعودي

لغز التجنيد: «داعش» مرعبة لنا لكنها جذابة لهم!

آراء

هناك رعب وخوف يمكن أن تقرأه في عيون الأشخاص العاديين الذين لم يقرأوا من قبل عن التطرف والإرهاب و«القاعدة» وأخواتها وأخيرا «داعش»، التجربة المتكاملة لتنظيم متطرف انقلابي يسعى إلى إقامة دولة وبطريقة ذكية تقرأ التوازنات الإقليمية والاستخبارات وليست بسذاجة رفاق الأمس الذين كانت أحلامهم على الأرض لا تعدو سوى الإثخان في العدو والشهادة ولقاء الحور في السماء، بينما تعدك «داعش» بكل شيء بدءا من إلغاء الحدود والفوارق والصعود السريع في هرم التنظيم وصولا إلى التمكين في الأرض وبناء الدولة والعيش وفق أسلوب حياة ونمط بدائي يعزز من الصورة الذهنية لمجتمعات الثغور في التاريخ الإسلامي وبطريقة تسويقية تستقطب المغيبين بحلم الخلافة الذي بات فكرة مسيطرة تداعب أحلام الأجيال الجديدة التي تشبه نظراءها في كل شيء سوى الفكرة المسيطرة، فشباب «داعش» لم ينزلوا من السماء، هم، خاصة الأجيال الجديدة، مشدودون وبارعون في التقنية سريعو التقلب والتأثر وسلم القيم لديهم مضطرب جدا، تبرز قيم الاستئثار والشجاعة والحميّة وإثبات الذات لكن في أشكال وقوالب وصيغ دينية لمنح هذه النفسية المضطربة بعض المعنى، بينما تتجلى في المجتمعات الشبابية في شكل ألعاب عنيفة وسلوك غير سوي… إلخ.

صحيح أن ثمة وعيا كبيرا يتخذ شكل القلق والخوف من التطرف والإرهاب، لكن هذا الخوف هو فقط من التورط الأمني أو التأثيرات الكبرى من العمليات الانتحارية والتفجير، لكن هذا الوعي منقوص لأنه يستهدف النهايات أو مشهد الحبكة كما يقول أهل السينما بعد أن يكون قد فات الأوان.

الآن يمكن الحديث عن ضرورة تغذية المناعة الاجتماعية تجاه أفكار الإرهاب العنفية، ليس في استهداف التفجير والعمليات الانتحارية وتجريمها بل أيضا إيجاد مناعة ضد التطرف بكل أشكاله بدءا من العزلة والإقصاء والتمييز الاجتماعي لأسباب تطهرية دينية وصولا إلى الجانب الفكري التكفيري والنفي، وهي تشمل دائرة أوسع بكثير من مجرد «داعش» و«القاعدة»، فنحن الآن نعيش فسطاطي بن لادن بشكل حاد، إما أن تكون مع مفهوم المواطنة وحماية الحدود والإيمان بمشروع الدولة الحديثة وحب الحياة واحترام التجارب الحضارية الكبرى أو تكون مؤمنا بأن العالم كله دار كفر والمجتمعات ضالة بحاجة إلى العودة لرشدها، وهي أفكار عامة تتقاطع تفاصيلها مع «القاعدة» و«داعش» في جملة من الأفكار المشتركة، إلا أن هذه التنظيمات المتطرفة تستهدف التجنيد السريع بما تملكه من شبكات إعلامية واجتماعية واتكاء على حالة الفوضى في المرجعيات في الإسلام السني الذي يفتقد مراجعات نقدية في علاقته بالذات والآخر القريب- الأنظمة والآخر البعيد العالم المختلف (كتبت في مقالات سابقة عن فكرة لجذر الواحد للأصولية الإسلاموية).

هناك حلقة مفقودة في قراءة الإرهاب التي عادة ما تكون قراءة لاحقة وتالية بعد تورط الكوادر العنفية، لكنها لم تقترب من لحظة التحول وغياب دور الأسرة أو تجاهلها بحجة الخوف والقلق على المصلحة الشخصية للابن ولو بشكل متوهم، كما أن التجنيد الآن انتقل من الطريقة الشبكية التي تحدث عنها خبراء الإرهاب في بداياته إلى التجنيد الفردي حيث لا يتم الالتحاق لمجموعات متطرفة بشكل تنظيمي هيكلي، ولذلك فإن التعرف عليهم يكون عسيرا في الغالب بسبب غياب السمات الشخصية أو العلامات الدالة وحرصهم على السرية والتكتم في خطواتهم التي يقدمون عليها، ومن طبيعة هؤلاء المجندين الصغار غير المرتبطين هيكليا أن يحرصوا على الانضمام السريع إلى العراق أو اليمن أو سوريا عبر وسطاء في دول مجاورة كما تحرص الجماعات المتطرفة على تجنيد هذه النوعية لسهولة التأثير عليها وإقناعها بالقيام بعلميات انتحارية من دون تفكير أو فحص للعواقب.

أبو شهد أحد المقبوض عليهم بعد عودته من مناطق التوتر خير من تحدث عن فوضى التجنيد لدى الجماعات الإرهابية وبشكل عفوي عبر حلقة اعترافات بثها قبل بضع سنوات التلفزيون السعودي لأشخاص عائدين من تجربة عنفية وفيها الكثير من المعلومات المهمة جدا حيث تحدث عن علاقة كثير من الاستخبارات الأمنية في الدول المحيطة بمناطق التوتر بنصب المصائد والفخاخ للشباب الصغار القادمين من المملكة، وكيف أن الشباب، ومنهم أبو شهد، يضطرون لدفع مبالغ نقدية كبيرة لمجرد إقناع الوسطاء بأنهم قادمون للقتال وأنهم ليسوا عناصر أمنية، ومن هنا تبدأ رحلة السفر إلى العراق، عبر أشخاص متفرغين لنقل الفرائس المصطادة من الحدود إلى مناطق التوتر وقبل ذلك يقوم الوسيط بتجريد الشاب من كل أغراضه وعزله عن كل الاتصالات، حتى لا يمكن التفكير في العودة أو التراجع عن قرار الذهاب، وأيضا لأسباب أمنية بسبب اختلاف هيئات وملامح وسحنات الشباب القادمين من خارج العراق عن أبنائه، ويتم نقل الجميع بشاحنات غير مهيأة للنقل ويلقى بهم على أطراف الحدود ليكمل درب الانزلاق في وحل التطرف مشيا على الأقدام، وعند الوصول إلى العراق يتم استخراج بطاقات شخصية مزورة تفيد بأن الشباب من العراق لكن فارق اللهجة واللغة والسحنة وحتى معرفة تفاصيل المكان تقود بسهولة إلى اكتشاف مأزق المغالطة، وبالتالي يقع الشاب في الأسر قبل أن يصل إلى مبتغاه المنشود.

وحتى لا يتم لفت الأنظار إلى أوكارهم ومخابئهم، يتم عزل الشاب شهورا عدة، تصل إلى السنة ليدب فيه الملل، وتصبح حاله النفسية في أكثر مستوياتها تدنيا، ومن ثم يتم إقناعه بضرورة القيام بعملية انتحارية، وتهديده بأن القوات النظامية تدهم الأبواب، وأن الأفضل له أن يبادر بالعملية قبل أن يقع في الأسر، ويخيل إليه أن الفرار إلى أحضان الحور العين أولى من الوقوع في سجن استخباراتي سيئ السمعة.

المسألة أكبر من مجرد نقد مواقف «داعش» أو «القاعدة»، إننا بحاجة إلى فتح كل الملفات وطرح الأسئلة الحقيقية في شكلها المنطقي البدائي: من، كيف، لماذا..

المراجعات النقدية لا تمنح مفعولها لأنها أشبه بحوار ذاتي بين مثقفين، إلا أن التحولات الكبرى على مستوى الثقافة الاجتماعية السائدة في العقل الجمعي، والتي تشكلت عبر سنوات طويلة منذ انشقاق الحركات الأصولية من عباءة الحركات الإصلاحية الدينية، بحاجة إلى استراتيجيات ثقافية بديلة طويلة المدى، تشارك فيها الحكومات والمؤسسات الرسمية والجمعيات الأهلية المتخصصة، بمساندة مراكز الأبحاث المتخصصة في دراسة «الظواهر الفكرية وعلائقها الاجتماعية» وليس قراءتها كأفكار مجرّدة تنظيرية.

المصدر: الشرق الأوسط
http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=782944