يوسف الديني
يوسف الديني
كاتب سعودي

لغز «داعش»!

آراء

هل أصبحت «داعش» لغزا عسيرا على الفهم، كما يوحي هذا الكم من المعلومات المتناقضة والمتباينة والتحليلات التي تتوسل نظريات مؤامرة في غاية التعقيد؟!

هذا التعاطي الذي يقترب من حدود «الأسطرة»، بتحويل «داعش» إلى أسطورة، مقصود لذاته في حال استثنائي وصلنا إليه بعد «الربيع العربي» حيث الإرهاب والوحشة والبشاعة التي لا يقبلها عقل أو دين تتحول إلى كارت سياسي مهم تلعب كل الأطراف حتى المعادية على استغلاله بشكل جيد، وهنا لب «الأزمة»، فالاستغلال السياسي يجب ألا يحجبنا عن قراءة ظروف تعملق وتضخم هذه التنظيمات بعد فشل الربيع العربي.

إذن كيف بدأت القصة؟ باختصار «داعش» هي منتج إرهابي منفصل عن «القاعدة» بعد أن كانت جزءا منها، ثم أضيفت إليها أفكار جديدة، إلى أن آل الوضع إلى هذا المزيج الذي يقترب من العصابات المنظمة منه إلى عمل جماعات العنف المسلح الدينية (بذور «داعش» تعود للخلاف الفكري بين تيار الصقور الذي كان يمثله الزرقاوي، و«القاعدة» التقليدية، وبعد مقتله ومقتل أبو حمزة المهاجر دخلت «داعش» مرحلة مشروع الدولة في العراق).

تبدو «داعش» في عيون «الجميع» لغزا محيرا ينسب تارة إلى إيران وتارة إلى العراق وتارة إلى بشار وتارة إلى الولايات المتحدة، ناهيك عن الاتهام الاستعدائي الذي يعبر عن أزمة ترحيل الأزمات السياسية الإيرانية الشهيرة، والتي اقتبسها المالكي حين أطلق اتهاماته جزافا تجاه المملكة والخليج، وبشكل يدرك هو أنه جزء من إنتاج شرعيته المتوهمة التي تلفظ أنفاسها الأخيرة عند عقلاء شيعة العراق قبل سنتهم (إدانة أداء المالكي الطائفي أهم وأنجع من تثوير الطائفية وإنتاج حرب أهلية عراقية، وهنا يمكن أن نشيد بالبيان السعودي المتعقل والذي يدعو إلى تسوية سياسية رغم الحملات المغرضة ورغم رعونة عدد من رموز الإسلام السياسي. تغريدات حاكم المطيري وأمثاله كارثية إذا ما علمنا حجم تأثير هذه الشخصيات على جمهور غير قاعدي). بالطبع جزء من أزمة تحليل «داعش» يعود إلى أسباب كثيرة، أهمها القراءة الخاطئة لـ«التيارات المنغلقة»، والصورة المغلوطة عن جماعات العنف المسلح منذ حركة الخوارج تاريخيا ووصولا إلى «القاعدة» وأخواتها، فهناك أولا تغييرات بحكم التاريخ، وتغير الوضع السياسي، وأخرى بسبب التأثر والتأثير على الواقع نفسه، فالنواة الأولى لمجاهدي الثمانينات قبل نشأة «القاعدة» تختلف عنها في مرحلة «مطبخ بيشاور» التي تلتها، تختلف كذلك عن مقاتلي البوسنة والشيشان، ليس فقط على مستوى الأفكار وهذا فرق جوهري، بل على مستوى موقفهم من الأنظمة العربية أو قتال العدو القريب أو البعيد، وموقفهم من التحالف مع استخبارات دول أخرى في مصلحة التنظيم، والتدفق المالي، وأيضا انفصال المرجعيات الشرعية للتنظيم عن المناخ الشرعي السائد من حيث تحرير مسائل الجهاد أو فقه الثغور والذي تغير عدة مرات، من تكوين علماء تنظيم مختصين، وصولا إلى غياب الرؤية بحكم دخول أطراف قادمة من خلفيات بعثية وأخرى أقرب إلى الثوار المناطقيين كالعشائر في العراق وبعض المناطق السورية.

لقطع هذه الحيرة في فهم لغز «داعش» كان الأحرى بسيل التحليلات التي تقترب من روايات الخيال العلمي قراءة نتاج «داعش» وهو منشور ومبذول، سواء المنتج الفكري (رسائل، فتاوى، وصايا شهداء، الردود على المخالفين.. إلخ)، أو المجتمع الداعشي على الإنترنت (معرفات «تويتر»، منتديات جهادية، وحتى كتيبات تحريضية عادة ما تحاول عمل دعاية مضادة لخصوم «داعش»)، وأيضا من المهم معرفة قراءة «داعش» النسخة القاعدية ثم «داعش» النسخة العالمية التي تجتذب الآن عناصر أجنبية (لك أن تتخيل أن أكثر لغة يتم التحدث بها من أنصار «داعش» هي الفرنسية بحكم غلبة العنصر المغاربي والأوروبي)، ودخول قوميات فرعية صغيرة مرتبطة بحدود سوريا، وهو ما يعني واقعا إرهابيا جديدا أقرب إلى التحالف الأممي للذين لا يرون أي جدوى في التغيير إلا من خلال العنف، باعتباره الصوت الذي يجلب الإعلام والاهتمام الدولي والغرب، وبالتالي يعيد إنتاج دعاية عكسية لأتباع التنظيم (منذ الهجوم على «داعش» زادت شعبية التنظيم لدى الأوساط المتعاطفة مع جماعات الإرهاب)، بل ويستعطف تيارات أخرى، كما نلحظ الآن تحولا خطيرا وكارثيا لدى من تبقوا من منظري الإسلام السياسي على الإنترنت الذي قفزوا من صف العزاء الإخواني إلى طوابير المشجعين في جرائم «داعش» وبشكل فج يكرس نظرية «الجذر الواحد» التي تدرس ظاهرة العنف والإرهاب عبر امتدادها التاريخي، منذ ولادة لحظة الإسلام السياسي قبل قرنين من الزمان.

بقي أن يقال إن الغموض الذي يكتنف علاقة «داعش» بالنظام السوري، والإشارات المتناقضة التي تبعثها، باعثهما هو عدم التمييز بين ركيزتين مهمتين في قراءة تيارات العنف المسلح، البنية النظرية الصلبة للتنظيم متمثلة في الأفكار التأسيسية: تكفير المجتمعات، حلم دولة الخلافة، المشروع الانقلابي المسلح على الأنظمة العربية، الامتداد الاجتماعي للعنف كفكرة قادرة على التغيير في ظل عطل السياسة.. والركيزة الثانية هي آليات العمل في الواقع والذي يختلف من مكان إلى آخر. للتذكير، لو أخذنا شريطا زمنيا لتطور أفكار العنف المسلح منذ النواة الأولى لمجاهدي أفغانستان إلى «داعش»، لرأينا اختلافا كبيرا على مستوى المواقف السياسية، خاصة بعد دخول أسلوب «إطلاق اليد» الذي استخدمته إيران، ويستخدمه ببراعة بشار الأسد، لكن المالكي حين حاول تكرار التجربة واجه فشله الذريع، الذي جعل كل الناقمين عليه – وحق لهم – أن يجدوا في «داعش» ذريعة لإسقاطه، لكنهم مخطئون في ثقتهم أيضا بالقدرة على التخلص من سم الثعبان لاحقا.

باختصار، «داعش» صنيعة إهمال شامل.. أسّها غياب الإصلاح الديني. فالمؤسف أن تكون أفكار «داعش» البديل الأول للمحبطين من الأوضاع المتردية. ومن المحزن رغم كل ما يحدث أن ملف مساءلة مرحلة الحرب على الإرهاب على الطريقة الأميركية، منذ بداياتها وحتى أخطر منعطفاتها (الطائرات بلا طيار).. هو حل أميركي على طريقة الوجبات السريعة، ويمثل الدعاية المثلى لصناعة مظلومية مستحقة للمتطرفين.

المصدر: الشرق الأوسط