د. السيد ولد أباه
د. السيد ولد أباه
كاتب وأستاذ جامعي موريتاني، له كتب ودراسات عديدة منشورة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديمقراطي.

ليبيا.. إلى أين؟

آراء

حكومة وبرلمان في طبرق، وحكومة أخرى ومؤتمر وطني في طرابلس، تبدو الصورة في ليبيا واضحة: صراع شرعية بين مجلسين منتخبين وحكومتين صادرتين عنهما، بيد أن هذه الصورة لا تصمد أمام التمحيص بالنسبة لمن يعرف تعقيدات الوضع الليبي الذي نادراً ما يحظى بقراءة تحليلية موضوعية في الكتابات العربية السيارة.

لا يمكن النظر إلى الوضع الليبي بمعطيات الشرعية الإجرائية باختزاله في صراع بين محطتين انتخابيتين وقوتين سياسيتين متناوئتين، فالصراع المحتدم في الساحة الليبية له وجهان: يتعلق أولهما بهندسة البناء السياسي في بلد يفتقد إلى الحد الأدنى من تركة الدولة الإدماجية المستقرة، ويتعلق ثانيهما بالصراع الإقليمي الأوسع المتعلق بالجغرافيا السياسية العربية الجديدة.

بخصوص الجانب الأول، يتعين التنبيه إلى حالة الفراغ الهائل الذي خلفه انهيار حكم العقيد القذافي الذي لم يستند في عهده الطويل إلى أي قوة سياسية أو مجتمعية تكون دعامة للدولة التي فكك كل هياكلها الإدارية والمؤسسية، فحكم بمعادلة أمنية – قبلية ضمنت له الاستمرار في الحكم، في الوقت الذي قوض كل الأشكال الجنينية للمجتمع الأهلي وقضى على كل الأشكال السياسية المنظمة.

لم تتوفر لليبيا مؤسسة عسكرية قوية ومنظمة على غرار مصر، ولا بنية إدارية وبيروقراطية فاعلة ومجتمع مدني حي كما هو الشأن في تونس، ولذا كان من الطبيعي أن تسد الفراغ المليشيات القبلية التي تزيد على ثلاثين مليشيا قوية، أبرزها مليشيا «الزنتان» ومليشيا «قبائل مصراته» و«مليشيات الأمازيغ» و«الطوارق» و«التبو»، فضلاً عن مليشيات المجموعات الدينية المتطرفة التي تحالفت مؤخراً مع عشائر الزاوية ومصراته للسيطرة بالقوة على طرابلس وإلغاء نتائج انتخابات يونيو 2014 التي انهزم فيها التيار «الإخواني».

ومع أن التيار الليبرالي الديمقراطي الساعي لبناء دولة حديثة في ليبيا تحتكر العنف وتضع الهياكل المؤسسية العمومية حقق انتصاراً لافتاً بتصدر «تحالف القوى الوطنية» برئاسة محمود جبريل نتائج انتخابات 7 يوليو 2012 إلا أن النظام الانتخابي الذي شجع القوائم الفردية المستقلة وعسكرة الحياة السياسية من خلال المليشيات المتحالفة مع التيار «الإخواني» أفضيا إلى حرمان القوى الليبرالية من المكاسب التي حققتها, وحرما ليبيا في الآن نفسه من محاولة جدية واعدة لوضع قواعد ناجعة لبناء سياسي مستقر.

لم تستطع حكومة «علي زيدان» الإمساك بالسلطة التنفيذية الفعلية، وتمكنت الكتلة «الإخوانية» المدعومة من القوى القبلية الحليفة لمليشياتها من فرض قرارتها بالقوة والإكراه، بدءاً من «قانون العزل السياسي»، الذي أريد به إقصاء الكفاءات الإدارية القليلة المؤهلة لتسيير البلاد، انتهاء بتطويق «المؤتمر الوطني العام»، واختطاف رئيس الحكومة قبل عزله قسراً.

وفي حين نتج عن انتخابات يوليو 2014 انهيار فادح لتيار الإسلام السياسي وتقدم واضح للتيار الليبرالي والقوى المحلية المستقلة، سجلت محاولة جدية لإعادة بناء جيش وطني قوي يقف في وجه المليشيات القبلية والأيديولوجية المسلحة من خلال عملية «الكرامة» التي تزعمها اللواء خليفة حفتر مدعوماً من طيف واسع من القوى السياسية والقبلية، كما حصل على تأييد البرلمان الجديد المنتخب وحكومته، بيد أن القوى الإسلامية المتشددة والمجموعات المسلحة الحليفة قد عملت على تعطيل ديناميكية الإصلاح السياسي بإدخال البلاد في حرب أهلية دامية بدأت نذرها تلوح للعيان.

وبخصوص البعد الإقليمي للصراع الداخلي، يتعين التنبيه إلى أن قوى وأطرافاً معروفة سعت منذ بداية الثورة الليبية إلى توجيه المسار السياسي الانتقالي بطريقة تضمن فوز وتحكم تيار الإسلام السياسي. وقد راهنت هذه الأطراف على الساحة الليبية بقوة بعد إخفاق التجربة «الإخوانية» في مصر وانتكاسة حركة «النهضة» في تونس، مستفيدة من حالة العسكرة السياسية القائمة ومن طبيعة الفوضى والتفكك المتفاقمة.

وكما لا يخفى على أحد، سيكون المصير الليبي حاسماً في تحديد الجغرافية السياسية للمنطقة في أضلاعها الثلاثة التي تشكل زوايا المحال الإقليمي الليبي الواسع: في المشرق العربي حيث الحدود مع مصر، وفي المغرب العربي حيث التماس مع تونس التي تشهد مصاعب الانتقال الديمقراطي ومع الجزائر التي تعيش مرحلة انتقالية من عهد منتهٍ إلى عهد آخر لا تزال معالمه غامضة، ومع منطقة الساحل الأفريقي حيث الأزمات المستعصية على طول القوس الرابط بين السودان شرقاً ومالي غرباً.

ولا شك أن التحدي الأبرز في هذه الجغرافية السياسية الملتهبة هو كيف يمكن انتشال نموذج الدولة الوطنية المندمجة من معاول التفكك الداخلي التي تمسك بها التنظيمات المسلحة والمجموعات الإرهابية، حيث يشكل التطرف الديني المسلح الخطر الأكبر بتحالفه مع المليشيات القبلية والإثنية التي تزايد نفوذها وتعاظم ضررها في الآونة الأخيرة، ومن هنا خطأ التخلي عن ليبيا في هذه المحنة الأليمة التي لن يسلم أحد من دخانها.

بعد سقوط القذافي كتبت في هذه الصفحة مقالاً نبهت فيه إلى المخاطر التي تتهدد ليبيا في المرحلة الانتقالية، وقد قابلت أوانها شخصية سياسية ليبية مرموقة من الوجوه البارزة، التي قادت حركة التغيير دبلوماسياً وإعلامياً، أكدت لي أن لا خوف على البلاد لأسباب ثلاثة هي: حالة الانسجام الديني والقومي الواسعة على الرغم من المعادلة القبلية التي لا تميز ليبيا عن بقية المجتمعات العربية البدوية، ووجود قدرات مالية هائلة من عائدات النفط تسمح بتحقيق السلم الأهلي وتعزز اللحمة الوطنية لحاجة البلاد إلى سلطة مركزية قوية تدير هذه الثروة وتوزعها، وتوفر نخبة مثقفة مكينة التكوين تتشكل أساساً من الكفاءات التي كانت تقيم في الغرب ومن الشخصيات المرموقة التي التحقت لفترة قصيرة بـ«المشروع الإصلاحي» لسيف الإسلام القذافي قبل أن تكتشف زيفه.

ذكرت الصديق الليبي الذي التقيته مؤخراً بتحليله المتفائل، وقد رد علي محبطاً إنما لم ينتبه إليه هو أن البلدان الهشة مثل ليبيا تحتاج إلى جيش قوي يكون دعامة للبلاد أكثر مما يحتاج لثروة نفطية لا يمكنه حمايتها ولا الاستفادة منها.

المصدر: الاتحاد

http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=81131