جمال خاشقجي
جمال خاشقجي
كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية

ليتنا نغير الموضوع … إنه الاقتصاد

آراء

الانتخابات الرئاسية المصرية مثيرة، لكنها إثارة للفرجة، وليس للفائدة، صراع ديكة، وتبادل اتهامات بين تيارات، جدل لا ينقطع عن هوية الدولة، مدنية هي أم دينية؟ في الوقت الذي يعرف الجميع، بما في ذلك الجمهور، أن الاقتصاد هو ما يجب أن يكون الموضوع الرئيسي في الانتخابات.

قليل من يعرف من المرشح الذي وعد بخفض الضرائب أو رفعها. أو كيف سيوفر الدكتور أحمد مرسي المال الكافي لتنفيذ وعده بتخصيص راتب لكل أمّ لا تعمل. وما هو مشروع الفريق أحمد شفيق لزيادة إنتاج فدان القمح في مصر، هذا إذا كان عنده برنامج لأمر كهذا.

شخصياً، أستمتع أكثر بمتابعة الاقتصادي المصري جلال أمين وهو يحلل الاقتصاد المصري ويربطه بالتحولات السياسية والاجتماعية. إنه يظهر أحياناً في التلفزيون هو وغيره من الاقتصاديين، ولكن ليس في ساعات الذروة، أي ما بين التاسعة مساء إلى منتصف الليل، فتلك ساعات مخصصة للجدل و «المناحلة» والمناحرة، مخصصة للفريق أحمد شفيق، وهو يهدد ويتوعد ويتهم «الإخوان»، فهذا موضوع أكثر إثارة. بينما يعرف الجميع أن الاقتصاد أو بالأحرى النجاح فيه هو الذي سيُبقي مرسي أو شفيق في الرئاسة في الدولة الديموقراطية، وإن كان شفيق يستطيع الاستعانة بصديق للبقاء في السلطة هو الجيش فيما لو فشل اقتصادياً.

لكن هذه الحال لا تختص بها مصر، حتى نحن في السعودية مشغولون بألف قضية غير الاقتصاد، وعندما نتحدث عن الاقتصاد نهتم فقط بجانب الشكوى في نهاية خط الإنتاج، أن لا يصلنا ما نعتقد بأنه حقنا الكامل منه، من غير أن نبذل جهداً أو حتى نتابع ونناقش بشكل مستفيض وممل ما يحصل خلال «دورة الإنتاج.»

يجب أن نعيد الاعتبار إلى الاقتصاد، فهو المحرك الرئيس لكل القضايا، الاجتماعية والسياسية، إنه سبب الثورات والرضى، سبب التحولات السكانية، والهجرة، ونشوء المدن وانحسارها. صحيح أن الماركسيين لهم باعٌ في مثل هذه الآراء، لكن كلامهم مبتدأه صحيح ومنتهاه خاطئ، لنبحث نحن عن المنتهى الصحيح.

لنحلل برنامج «حافز» الذي أبدعه رجال سياسة واقتصاد واجتماع لوزارة العمل السعودية، لعلاج بطالة الشباب بتوفير راتب خلال فترة بحث العاطل عن العمل. لنحلله بأدوات «الاقتصاد السياسي». هل سيؤدي إلى الدفع بالشباب والشابات العاطلين للعمل؟ لماذا عدد النساء أكثر من الرجال في البرنامج؟ لماذا يفضل البعض راتب «حافز» على العمل؟ كل ما سبق اقتصاد، يمكن أن يحلل بأرقام وحسابات، ولكن، ما أهم مسائل «حافز» المثارة في الصحافة السعودية؟

إنهما أمران، ليس لهما علاقة بالاقتصاد الإنتاجي الذي نريد، وإنما «مناحلة» الشكاة الواقفين في نهاية خط الإنتاج ويتساءلون: «أين نصيبنا؟»

جلّ ما يكتب في الصحافة السعودية حول «حافز» هو انتقاد وزارة العمل، لأنها ضيقت دائرة المستفيدين، وثانياً لأنها تخصم من مخصص المستفيد إذا لم يجدد تحديث معلوماته! بعض من ينتقد يتساءل: «هل تعلم الوزارة أن بعض هؤلاء يضطر أن يذهب لمقهى إنترنت أو لصديق، لأنه لا يملك جهاز كومبيوتر؟»، ربما الوزارة تريده أن يظهر بعضاً من الجدية، أو يتملك جهاز كومبيوتر بات سعره أرخص من دعوة عشاء لأبناء عمومته، إنه من أدوات الاقتصاد أن تدفع المجتمع إلى استخدام أفضل للتقنية.

سؤال آخر مهم لا أراه في الصحافة السعودية، لماذا لم يَنْسَب المال من نحو 200 بليون ريال أنفقت خلال العقد الأخير في إنشاء شتى المشاريع الكبرى إلى الاقتصاد المحلي؟ إنها نظرية «اقتصاد انسياب المال من فوق إلى أسفل» التي يبرر بها الاقتصاديون الأميركيون المحافظون خفض الضرائب، بأن المال المختزن أو أرباح الأغنياء لا بد من أن تنسابَ إلى الأسفل. هل ارتفع معدل دخل الفرد بما يتساوى مع زيادة الإنفاق خلال العقد الأخير؟ أم أن المال جاء إلى «فوق» وبقي هناك، وخرج من هناك إلى الخارج في صورة عقارات واستثمارات خارجية، وتحويلات عمالة أجنبية انعكست (انسابت) إلى مانيلا وكراتشي. لا بد من طرح السؤال الصريح، هل استفاد سعودي يدير متجراً للأدوات الصحية في شارع التخصصي في الرياض من المشاريع العملاقة التي تقام من حوله، إنه الاقتصاد الذي يجب أن يناقش، وهو الذي يعمل الفرق في المجتمع.

حتى القضايا «الاجتماعية» مثل عمل المرأة وقيادتها السيارة التي نتجادل حولها في إطار «صراع التيارات الثقافي» ما هي في حقيقتها إلا قضايا اقتصادية تماماً. كم من المال سينساب إلى البيوت عندما تعمل المرأة؟ وكم من المال سيضاف إلى الدورة الاقتصادية المحلية في نهاية كل شهر كلما تسلمت بضعة آلاف امرأة سعودية عاملة راتبها؟ وكم عدد العمالة الأجنبية التي خرجت من الوطن بسبب توظيف سعوديات، فنزلت قيمة التحويلات التي تستنزف الاقتصاد السعودي؟ هل التحويلات تستنزف الاقتصاد وهي تقدر بنحو 105 بلايين ريال؟ هل سيزداد عدد العاملات عندما يسمح لهن بقيادة السيارة، وكم سائقاً سيرحل بعد ذلك؟ وما نسبة الانخفاض في التحويلات بعدها؟… أستطيع أن أسترسل أكثر في طرح أسئلة اقتصادية أعتقد أنها أهم ألف مرة من جدلنا الفكري، ومن تكرار الشكوى من انخفاض الدخل وارتفاع كلفة المعيشة. لا أدعو إلى وقف ذلك، وإنما لنربط جدلنا الفكري بالاقتصاد، فجل قناعتنا يحركها الاقتصاد، من المدينة التي نعيشها، والوظيفة التي اخترناها، وتعصبنا لقبيلتنا وأسرتنا الكبيرة، وتحولات مفاهيمنا الاجتماعية. كما أنني لا أدعو إلى وقف الشكوى، وإنما نشكو ونعزّز شكوانا بفهم واضح، وبالأرقام وبالتحليل الاقتصادي لأسباب شكوانا، ثم نشكو بإلحاح أكثر، ثم نبحث عن الحل.

طرحتُ أسئلة كثيرة في مقالي، ولم أقدم أجوبة، هدفي من المقال حث جميع الزملاء على الاهتمام بالاقتصاد، ومن لم يقتنع بكلامي ليُجرِ فرزاً سريعاً لمقالات اليوم في هذه الصحيفة، كم مقالاً معنياً بالاقتصاد فيها؟ توقعي من صفر إلى واحد فقط.

نشرت هذه المادة في جريدة “الحياة” بتاريخ (16 يونيو 2012)