محمد شحرور
محمد شحرور
مفكر إسلامي

ليس للإنسان إلا ما سعى

آراء

خاص لـ هات بوست :

ثمة أقوال مأثورة حفرت في العقل الجمعي العربي وتبادلها الناس فشكلت أساساً في تعاملهم، بعضها يصنف ضمن الأحاديث، دون التمحيص في مدى صحتها، كحديث “الجنة تحت أقدام الأمهات” الذي كثيراً ما يتداول في مناسبات تخص الأم، ورغم عظمة دورها وعدم شكنا بثوابها، إلا أننا لسنا متأكدين من كون الرسول (ص) قد قاله أو لا.

وفي سياق آخر يعتبر القول “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرىء ما نوى”حديثاً “صحيحاً”، اعتمده الناس في حياتهم كقاعدة تشكل مخرجاً لا بأس به لراحة الضمير، على أساس أن النوايا الحسنة تكفي لنؤجر ونثاب عليها، بما معناه أنه يمكنني أن أنوي التبرع بمائة ألف دولار للفقراء كل ليلة قبل النوم وأعد نفسي بالأجر والثواب بناء على ذلك، ويمكن لسارق إقناع نفسه أن نيته من السرقة هي إنجاز مشروع يعود بالخير على المجتمع، لكن ما ينطبق عليه برأيي هو أن “طريق جهنم مفروش بالنوايا الحسنة”، والمثال الأكثر وضوحاً في تاريخنا المعاصر هو ما جرى في حرب 67، حيث كانت نية جمال عبد الناصر في منتهى الطيبة والصدق لكنه تسبب في خسارة الضفة الغربية بما فيها القدس إضافة لسيناء والجولان، ولم يحاسبه أحد بل اعتبر قائد عظيم لأن الأعمال بالنيات.

ووفق التنزيل الحكيم الأجر يأتي جزاء لعمل {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة 105)، ومن جنسه، ومن يعمل خيراً سيجده ومن يعمل شراً سيجده {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(الزلزلة 7 – 8)، والمسلم هو من آمن بالله وعمل صالحاً {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33) فالإيمان يجب أن يقترن بعمل صالح يعكس صدقيته، وهو ما يمكننا القول أنه “عماد الدين”.

ويبرز هنا قوله تعالى {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران 29) ورب سائلٍ يقول “إذا كان الله يعلم ما في قلبي فلماذا لا يجزيني عليه؟” فالله سبحانه كامل المعرفة، وبالطبع هو يعلم ما نفكر، لكنه يحاسبنا وفق العمل الذي نتج عن هذه الفكرة، ولذا سنجد كشفاً بأعمالنا أمامنا يوم القيامة {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} (آل عمران 30)، لكن طالما أن العمل بقي ضمن دماغنا دونما تنفيذ على أرض الواقع فلا حساب عليه، سواء كان خيراً أم شراً، والله يعلم بصدق النوايا وهدف العمل، فمن يتصدق رياءً يعلمه الله، ومن نيته المساعدة فأخطأ العمل يعلمه الله، ونحن نثق بعدالته المطلقة سبحانه، حتى لو كنا لا ندركها تماماً بمقاييسنا النسبية الدنيوية.

أما قوله تعالى {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }البقرة284 (البقرة 284) فهو يتبع لما سبقه: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (البقرة 283)، أي خاص بالشهادة، والله تعالى يغفر إذا أخفيت بعضاً من الحقيقة، إن لم تسبب تضليلاً للعدالة، لكنه سيعذب من يشهد زور،فإذاما اعتلى المسلم كرسيّ الشهادة وجب عليه ألاّ يقول إلاّ الحق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء 135)والرحمة الإلهية منحت الحق في العدول عن الإدلاء بالشهادة ضد النفس وضد الأقربين،لكن إذا شهدتم فلا تقولوا إلا الحقيقة.

وأعمالنا اختيارنا، فالله تعالى لم يقرر منذ الأزل أن يضل أبو لهب ليصلى من ثم ناراً ذات لهب، لكن أبا لهب سيحصد نتيجة أعماله، وهو من وضع نفسه في طريق اللاعودة حيث لا إمكانية للتراجع، والله تعالى لم يقرر أن يموت زيد من الناس نتيجة خطأ طبي، لكن الطبيب هو من قصّر في عمله، فأعمالنا في الدنيا مناط قضائنا، ومصيرنا في الآخرة نتيجة لهذه الأعمال، والله تعالى أمرنا بالعمل الصالح، ابتداءً من الالتزام بالصراط المستقيم، حيث التقوى الحق تكمن خلاله، صعوداً إلى كل ما فيه خير للناس، من عطاء بسيط إلى علم ينفع به، إلى هبة لمحتاج، إلى قسط ليتيم، إلى اختراع دواء، إلى كل ما يخطر في بالك مما يسعد الآخرين، والإبداع هنا لا نهاية له، وكل سيجد نتيجة عمله، يستوي في ذلك الذكور والإناث {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(النحل 97) فالجميع معني بالعمل الصالح، وعدم الاكتفاء بالنوايا الطيبة، والوقت من ذهب، ومن في نيته عملاً صالحاً فلينجزه بسيطاً كان أم عظيماً، فهذا ما سيبقى لنا في الآخرة.

خلاصة القول نجدها فيما قاله جل وعلا {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (النجم 39 – 40) فلنسعى للخير ولا نكتف بحسن النوايا.