جمال خاشقجي
جمال خاشقجي
كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية

ليلة كادت تضيع القدس!

آراء

ثمة روايات وأفلام تدور أحداثها كلها خلال يوم واحد أو ليلة واحدة، لكن لا بد أن تكون ليلة أو يوماً حاسماً ومفصلياً، يختاره الروائي بعناية من بين كل الأيام، يختزل في ساعاته حقبة كاملة.

ليلة الجمعة 2 يوليو 1192 كانت من تلك الليالي، كان صلاح الدين الأيوبي قد حرّر القدس من الصليبيين قبل ذلك بخمس سنوات، ولكنه أهمل أو عجز أو أغراه فتح بيت المقدس عن إكمال تحرير كامل الساحل الشامي، فترك صوراً بيد الصليبيين التي لجأ إليها المنهزمون في حطين، ومن بعدهم من نجا أو فك أسره من المدن الساحلية الأخرى التي سقطت بيد المسلمين.

ثم حصل الأدهى، أثار سقوط القدس ألماً حاداً في أوروبا، وشعوراً بالعار والهزيمة، فتنادوا لحملة صليبية جديدة لاستعادة القدس، فوصلت جيوش جديدة عزّزت موقف الصليبيين، أحيت آمالهم باستعادة مملكتهم وسط شرقنا المسلم، وكان أبرز من وصل ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد، ليكتمل المسرح، ليقف عليه بطلان هما صلاح الدين وريتشارد.

في المقابل، لم يحرك تحرير القدس بكل ما مثله ذلك من استعادة للشرف الإسلامي الذي امتهن لأكثر من 90 عاماً، نهضة أو وثبة في العالم الإسلامي مثلما تمنى صلاح الدين، بل أثار خوف الخليفة في بغداد وخشيته من هذا البطل، الذي بات يسيطر على أقاليم إسلامية أكثر مما يحوزها الخليفة نفسه، تاريخ المسلمين كان لا يزال يدور حول الأشخاص، وليس الأمة وكل حريص على ما تحت يده لا مصلحة الأمة الكلية.

في تلك الليلة، يستطيع المخرج أن ينقل صورة من الجدل الدائر في مجلس صلاح الدين، يتعمد أن يجعلنا كمشاهدين نبحث عنه، فالسلطان الناصر صلاح الدين لم يكن يتصرف كالسلاطين، يتصدر المجلس، يتحدث فيسكت الجميع، يوجه فلا يقاطعه أحد، ولكنه كان مجلساً عادياً، بدون أبهة الملك، يميل إلى الفوضى، كل من فيه يبدي رأيه، يعارض السلطان، يقاطعه، كان مجلس رفقاء حرب، علماء دين، وقادة عسكريين، ووزراء سياسة، أحياناً لا تعرف من هو السياسي ومن هو الفقيه.

النقاش يدور حول، هل يمكن حماية القدس من ذلك الجيش الصليبي الشرس الذي يعسكر في سهل قريب منها؟ جواسيس صلاح الدين تنقل له معلومات مفصلة من هناك، إنه يعرفهم جيداً، فلم يكن هناك ما يشغله طوال العقد الماضي سوى حربهم، والتقى وتحاور مع الكثير منهم.

يعرفنا المخرج على صلاح الدين، رغم أنه لم يتجاوز الخمسين إلا بأعوام قليلة، إلا أنه يبدو أكبر من سنه، نحيل الجسم، يبدو متعباً، نعرف أنه مريض، وأن ثمة طبيباً يرافقه دوماً، يبدو مرهقاً في تلك الليلة، فهو غاضب أن الخليفة لم يعلن الجهاد، ولم يأمر بإرسال ما يحتاج من إمدادات الرجال والمؤن، يحمد الله أنه ضم مصر إلى حكمه، يقول: «لولا الله ثم مصر ما استطعنا أن ننتصر، ونحرر القدس، ولا أن نثبت اليوم»، إنه يخشى على مصر من الصليبيين، ولكنه يعلم أن القدس هي ما يريد الصليبيون وهي التي تحرك مشاعرهم لتجنيد المزيد من الحملات، ولكن لو أحكموا السيطرة على مصر أولاً لسقطت القدس.

ولكنه لا يستطيع أن يترك لهم القدس، حشد قواته، ووزع المهام على قادته، وأحكم خطته الدفاعية، ولكنه يعلم أن جيشه بات متعباً، مل الحرب التي لم تتوقف منذ عشرة أعوام.

لم يبق له غير الصلاة والدعاء في تلك الليلة حتى الفجر مع صديقه ووزيره ابن شداد. في اليوم التالي صلى الجمعة في المسجد الأقصى، تقترب الكاميرا منه، وهو يدعو في سجود طويل، دموعه تسقط على سجادة الصلاة. خرج من المسجد يترقب الهجوم.

في مساء اليوم يأتيه الخبر أن ريتشارد وجيشه انسحبوا إلى الساحل، كان اليوم طويلاً، والليلة السابقة أطول وأصعب في زمن صعب.

المصدر: مجلة روتانا