ليلى سألتني: ما هي الجريدة؟

آراء

ليلى الجميلة طفلة ذكية تملك فضولاً معرفياً، وتلقت من والديها تربية تحرضها على طرح الأسئلة ولا تقمع شغفها الطفولي، ولأنني أحترم هذا الفضول وأسانده فقد أجبتها بأن الجريدة هي مجموعة من الأوراق يكتبون عليها معلومات وأخبارا وفيها صور كثيرة.

تذكرت منظرها قبل أن تبدأ مرحلة التساؤلات، حين جلست أمامي تقلب في صفحات مجلة وتمد أصابعها الصغيرة محاولة تحريك الصور في المجلة، ولما لم تستجب هذه الصور الجامدة لأوامر أناملها ألقت بالمجلة جانباً وانصرفت لشأن آخر.

أعطيت ليلى ما ظننت أنه الإجابة المناسبة لعمرها، وكدت أن أسترسل فأشرح لها تاريخ الطباعة حين تفتقت عبقرية حداد حرفي ألماني في القرن الـ15 فحفر حروف الأبجدية على ألواح متحركة من الخشب في البداية ثم من الحديد، فنجح في اختراع المطبعة الأولى التي نعرفها اليوم، وأثبت قدراته بأن طبع أول نسخة غير مخطوطة من الإنجيل. وكان هذا الفتح سبباً في تطور العلوم والآداب بكل لغات العالم، فقد انتقلت العلوم من الخاصة القادرين على اقتناء الكتب المخطوطة إلى العامة.

كما أن اختراع المطبعة كان سبباً في ظهور الصحافة والإعلام الجماهيري، منذ أن صدرت أول صحيفة أسبوعية مطبوعة في مدينة أنتويرب البلجيكية عام 1605، وبعدها كرت حبات السبحة حين قام التحالف بين الناشرين (الصحافيين) والممولين (رجال الأعمال أو السياسيين)، عبر الإعلان أو التمويل المباشر بما سمح بتغطية تكلفة الطباعة وتحقيق الأرباح للناشرين، وقام التنافس فيما بين الصحف على جذب أكبر عدد ممكن من القراء عبر تقديم أفضل محتوى، فازدهرت مهنة الصحافة وبالتالي علوم الإعلام والاتصال وأصبحت علماً يدرس في الجامعات.

ودام هذا التحالف لما يزيد عن أربعة قرون، وهو تحالف غير مكتوب بالطبع، ولكنه قائم على تبادل المصلحة، فالناشر يريد أن يربح من استثماره في المطابع وأجور المحررين والمراسلين، والممول يريد أن تصل رسالته الإعلانية أو التجارية، أما المتلقي فإنه كان مشتركاً في الحلف ضمنياً، على رغم أنه كان من يدفع الثمن في النهاية، ليس فقط لأنه يدفع ثمن الجريدة، على رغم أن هذا الثمن هو أقل بكثير من تكلفتها، لكن لأنه قبل بأن يكون مستهلكاً للرسالة الإعلانية التجارية أو السياسية الموجهة، وفي الحقيقة فإن هذا الأخير لم يكن لديه بديل لأنه كان محتاجاً لمن يزوده بالخدمة الإخبارية والمعلوماتية.

دام هذا التحالف حتى نهاية القرن الـ20 حين ظهر مارد الإنترنت الذي حطم الحلف ونموذج العمل الذي قامت عليه الصحافة المطبوعة، حين قدّم لآلاف الملايين حول العالم وبكل اللغات حزماً جديدة ولا نهائية من الخيارات في الحصول على المعلومات وفي الاتصال وبسرعات قياسية متزايدة، ومع تحطيمه لهذا الحلف فإنه حطم حواجز الجغرافيا والاختلافات اللغوية والثقافية، وأضاف خاصية مهمة جداً للمتلقي وهي التفاعلية بما جعله مشاركاً في صناعة المعلومة، وأكثر من هذا فقد أصبح صانعاً للأخبار ومرسلاً لها مع توافر الأجهزة الذكية المزودة بالكاميرات الرقمية. فانصرف الجمهور عن الوسائل التقليدية إلى هذه الوسيلة المتعددة المنصات، وبسرعة غير اللاعبون مواقعهم، فأصحاب الرسائل (الإعلانية والسياسية) تبعوا الجمهور لأنهم وجدوا وسيلة رخيصة ومباشرة للوصول، والتلفزيون والراديو أصبحا أكثر تفاعلية واستخدما المنصات الجديدة في البث الحي، والوسائل المطبوعة التي عانت أكثر من غيرها فإنها بدأت بالبحث عن كيفية تطوير أدواتها والتخلي عن الطباعة تدريجياً ففشل البعض وأغلق أبوابه ونجح آخرون والبقية يحاولون.

لا أظن أنه سيصعب علي شرح هذه المفاهيم البسيطة للصغيرة ليلى قريباً حين تتطور مداركها، لكني سأكون محرجاً لشرح ما حدث للصحافة العربية والسعودية تحديداً، وكيف تعاملت مع هذه الأزمة الوجودية.

قصة الصحافة السعودية بدأت بدايات مفرحة، إذ حققت وبسرعة نجاحات كبيرة في إثبات حضورها لدى جمهور المتلقين، واستفادت من التنمية الاقتصادية بشكل بارع في وضع البنية التحتية الصلبة لعملها وبالتحديد في إنشاء المقرات الفاخرة وشراء أحدث الأنظمة الطباعية، وكانت تفاخر وتتنافس فيما بينها بأرقام التوزيع وبعدد الصفحات الملونة التي تنتجها يومياً، والأهم من ذلك أنها حققت على مدى أكثر من خمسة عقود أرباحاً هائلة نافست فيها البنوك، ثم وصلت القصة إلى منطقة حزينة حين انصرف القرّاء وتبعهم المعلنون والداعمون وانتهت حالة الإنكار التي لازمت صناع القرار في هذه المؤسسات طويلاً. والمؤسسون الذين أعطتهم الدولة فرصة حصرية للاستثمار في هذه المؤسسات عام 1964 استردوا استثمارهم مضاعفاً مرات عدة، ولم يعملوا ما فيه الكفاية لتطبيق ما نص عليه النظام من تخصيص نسبة كافية من الأرباح لأغراض التدريب وتوفير وسائل التقنية الحديثة، ولم يجدوا من يجبرهم على ذلك. ومع ذلك فإنهم يطالبون الدولة بالتدخل للإنقاذ بتقديم الدعم.

وسيكون من المخجل أن أذكر أن معظم من تربعوا على مقاعد القيادة طوال هذه العقود ودون انقطاع كان مبلغ علمهم بالتقنية الحديثة هو التحول من الزنكوغراف إلى الأوفست، وأنهم لم يتعاملوا مع الإنترنت ولم يرسلوا أو يستقبلوا بريداً إلكترونياً في يوم ما، وبالتالي فإن مصطلحات التفاعلية والواقع المعزز والمنصات المتعددة لم تدخل إلى قاموسهم.

الأزمة الحقيقية أن المطالبات تنصب على إنقاذ الصحيفة المطبوعة، ولم يفكر أحد في الحفاظ على مهنة الصحافة وصناعة المحتوى.

يهمني أن ليلى حينما تكبر وتشاهد صحيفة ورقية معلقة في متحف، ستقول لرفيقاتها: «جدي كان يقرأ ويكتب في صحيفة كهذه»!

المصدر: الحياة