مآسي اللاجئين

آراء

محمود مهندس معماري بارع، وكان يلقب بالمهندس منذ أيام دراسته الإعدادية والثانوية، فقد كان يعشق كل ما يمت إلى البناء والفن الهندسي المعماري، خاصة أنه نشأ على رؤيته في دمشق مدينته الغنية بالإرث الإسلامي المبهر، وفي شبابه أتيحت له فرصة التوجه لزيارة ألمانيا وتمكن من الحصول على فرصة عمره كما يعتبرها بأن يدرس الهندسة في إحدى الكليات الشهيرة هناك والتي تستقطب عشاق هذا النوع من الهندسة من مختلف دول العالم، حيث حظي باحترام كبير، فحماسه واندفاعه مكنه من تعلم الألمانية بسرعة، وبات من المتفوقين في جامعته التي تحظى بسمعة عالمية، كان فخوراً في ذلك الزمن بأن كل تركيزه على دراسته وإثبات قدرته على مواصلة التفوق، يومها لم تبهره الدولة الأوروبية بأضوائها وصخبها، وكانت رسائل والديه تعطيه القوة والصبر على المواصلة إلى أن تخرج، لقد كان بارعاً ومن الأوائل على جامعته، كان حلمه الصغير أن والده سيفرح كثيراً وهو يتباهى بنجاح ابنه، وبعد أن انتهى واصل دراسة الماجستير، وبدأ العمل ومعها بات لاسمه صدى مختلفاً فهو المهندس الماهر الذي بدأ يسطع وإن دون الطموح، فقرر العودة إلى وطنه فهناك حلم آخر ينتظره ويريد أن يؤسس أسرة ويحقق أحلاماً راودته كثيراً.. في المطار قال له صديق أتى لتوديعه: هل جننت تريد ترك ألمانيا بلد يفتح لك أعظم الأبواب والعودة إلى سوريا لتتزوج وتعمل موظفاً؟، لكن محمود قال له هنا قد أضيع بين عمالقة الهندسة ، لكن في وطني سأعمل وسأحظى بفرص قد أنتظرها هنا طويلاً، ثم إن هواء الوطن ساحر وله عشق لا يقاوم، وبمزيد من الحماس أخبر صديقه عن عروض ألمانية اعتذر عنها فوطنه أولى بخبرته وشغفه بفن اسمه هندسة العمارة.. فعاد وفي الطريق من المطار إلى دمشق كان يتنفس بعمق هواء اشتاق له كثيراً ..كان هذا قيل أكثر من 30 عاماً.

في وطنه عمل محمود بجد، وكان تارة ينجح وثانية يخفق، كان الروتين غالباً على حياة رتيبة لا جديد فيها، وتباعاً اعتاد عليها وتخلى عن الكثير من أحلامه التي طالما كان ينام ويستيقظ عليها، وإن بات له عملاً واسماً ومشاريع رغم أنها تأخرت.

مع اندلاع الأحداث السورية وخلال عامين أيقن محمود أن الحياة باتت مخيفة وأن الأوضاع المأساوية لن تستثني أحداً فعمله توقف ومشاريعه ألغيت، أولاده غادروا مع مئات الآلاف هرباً من الحرب المجنونة، وكانت وجهتهم ألمانيا التي لم ينساها يوماً، فركب البحر مغامراً إلى بلد تركها قبل أكثر من 3 عقود يوم كان شاباً واليوم يعود إليها وقد تجاوز الـ60 لاجئاً فاراً بحياته وكل ما يحلم به ألا يسمع أصوات القصف وألا يرى الموت مجدداً، لكنه عاد غريباً هذه المرة فلم يعد هناك أحلام ولا حماس، زار جامعته وأبلغ من رآهم أنه كان يوماً طالباً فيها، فلقي ترحاباً أفرحه قليلاً لكن الوطن المنكوب وتوقف العقل عن التفكير بالأمل كان الأقوى، كانت العزلة رفيقاً وحيداً، فهو لم يأتي ليجلس في مكان لجوء ويستمع لأخبار الموت القادمة من وطنه على جميع وسائل الإعلام، ولا أن يتحول فكره الهندسي إلى ما يشبه الآلة المتوقفة عن العمل، ولا أن يرى أولاده بين مرتبكين في حياتهم الجديدة.. وعادت الأسئلة الثقيلة التي حاول المكابرة عليها من قبيل.. هل أخطأ عندما ترك ألمانيا يوماً.

لكن من يعرف أن كل ما حصل كان ممكناً، في النهاية وجد نفسه رقماً مثل ملايين تركوا وطنهم قهراً وضعفاً بعد أن تقطعت بهم جميع السبل دون ذنب منهم، لقد بات محمود شارد الذهن دائماً وتمنى لو لم يعد حتى لألمانيا التي عشقها يوماً، لكن لا مفر ومثل حالته كان الآلاف أيضاً من الذين باتت حياتهم تترقب أملاً غير منظور ولا أحد فيهم يعرف ماذا يخبئ له الغد… كما أن عشرات الملايين حول العالم بفعل الصراعات والنزاعات هم محمود.

المصدر: الوطن