ماذا يعني أن ترفع العلم؟

آراء

ربما واحدة من أكثر اللحظات مثولاً في الذاكرة الوطنية، والتي اقتنصت تفاصيلها الكاميرات وأضحت صورتها منذ ذلك اليوم تزيّن جدران ومجالس بيوت أهل الإمارات، كانت صورة رزفة «بوخالد»، حفظه الله، في العيد الوطني الأربعين، وهو يحمل السيف في يمينه والعلم بيساره، وقد جعله ينسدل على كتفه وصدره، وكأنه يحمل ما لا يجدر أن يكون إلا على المنكب وأقرب ما يكون للقلب!

لم يكن العلم مجرد قطعة قماش، بل هو رمز الكيان وهوية الوطن، وهو ما دعا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، ليعلن احتفالية رسمية سنوية في يوم الثالث من نوفمبر من كل عام ليكون «يوماً للعلم»، والذي يوافق مناسبة تولي صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، حفظه الله، مقاليد الحكم خلفاً لزايد الخير، طيّب الله ثراه، وليستمر هذا التقليد الجميل لثلاث سنوات حتى الآن، بفورات حماس شعبي غير مسبوقة، آخرها كان يوم الخميس الماضي، والدولة بأكملها ترفع علم الإمارات في توقيت واحد، بينما كان يحيط بـ«أبوراشد» في حديقة زعبيل أكثر من 22 ألف تلميذ وتلميذة من مدارس الدولة، يمثلون قرابة 120 جنسية مختلفة مقيمة على أرض الدولة، تجسّد ذلك التناغم الرائع لكل المقيمين على هذه الأرض المباركة، وليؤكد سموّه إثرها أن العَلَم «هو رمز الوحدة الوطنية والشموخ الوطني والكبرياء القومي لشعب الإمارات».

السؤال هنا: ماذا يعني رفع علم الوطن؟

نعود سنين إلى الوراء، وتحديداً إلى الثاني من ديسمبر 1971، حينها لم يكن المؤسس العظيم زايد، رحمه الله، يرفع مجرد قطعة قماش ذات ألوانٍ أربعة، بل كان يرفع أُمّةً كاملة، ويُعلنُ عملاقاً قادماً، ويُبشّر بوطنٍ طموح، ويُطلق حُلُماً تقصر عنه همم الآخرين، كان برفعه له يُلغي كل الألوان الأخرى المغايرة، ويُسكت كل الأصوات اللاهجة بالفردية، ويطرح كل الجهات التي تمثل فترة التمزق والضعف والشتات.

عندما رفعه زايد، رحمه الله تعالى، كان يرفع رؤوس شعبه معه، وطموحاتهم، وأحلامهم، وهممهم، ويرفع فوق ذلك سقف التحديات، لأنه كان مؤمناً أنّ حوله رجالاً يستطيعون أن يُلينوا ما لا تسمح الأيام بأن يلين، وأن يشقوا في صدر المستحيل دروباً للقمة، معاولها صدق الثقة بالله، وطيب الأصل وصدق العهود والأيادي التي تعمل معاً.. معاً لا فُرادى!

http://media.albayan.ae/images/fasil/c2528.jpg

رَفْعُ العلم ليس مجرد مناسبة فقط، بل هو أكثر من ذلك بكثير في دلالاته، فرفعه من قبل كل شخص يعني أنه رمزه، وهويته، وانتماؤه، وأنها مناسبةٌ لتجديد العهد له والولاء لقيادته والبيعة لولي أمره، وأنه لا اعتبار لأي شيء آخر عندما يكون الوطن في السياق، وأنّه سبب أن تشمخ له وبه الرؤوس، وترنو لكبد السماء، لا أن تُطأطئ هاماتها للأسفل، هي عادة تُرسّخ لسلوك يبقى ومنهج حياة لا يتغيّر، وقناعة لا ترضى بأن تكون تابعةً لأحد.

رَفْعُهُ يعني أننا لا نرضى أن نكون «مثل البقية»، من ضمن السواد الأعظم المتماثل، بل لا نقبل إلا بالتميز ومنافسة حكومات دول النخبة و«شعوبها» أيضاً، بالعلم والعمل وصدق النوايا، حكومة تنافس حكومات العالم المتقدم وأيضاً، بلازمٍ لا يقبل الافتكاك عن ذلك، بشعبٍ ينافس الشعوب المتحضرة ويؤكد جدارته بأْن تُمثّله تلك الحكومة المتألقة والمجتهدة، وأن يكون خير عونٍ لسلامة وصواب تلك الرسائل التي تحملها مؤسساتها عن أفراده، حيثما كانوا مثّلوا الصورة المشرقة لبلادهم في الاجتهاد والتعاون والإخلاص والاحترام وحب الخير للجميع، وبسعة الصدر والعقل لاستيعاب كافة الألوان والأطياف والمشارب، من أجل نسيج مجتمعي داخلي متماسك ومتفاعل، وكيان منفتح على شعوب العالم بصورة إيجابية متسامحة.

رَفْعُ العَلَم يعني أن تكون قدوة لغيرك في وفائك لوطنك وحرصك عليه وجدارتك بأن تحمل أمانة الحديث باسمه، بإخلاصك في عملك، واجتهادك في تطوير المؤسسة التي تعمل بها، وصدقك في التعاون مع زملائك والشد على أيديهم، ورأفتك وحسن توجيهك وعدالتك لمن تحتك، واحترامك وامتثالك وصدقك مع من يعلوك في السلم الوظيفي، في بيان جلي على أن الوحدة والتعاضد والتكامل يسري في كل تفاصيل حياتنا، وأن روح زايد تنبض في كل شرايين هذا الوطن وفي كل مؤسساته وكياناته.

رفع العلم يعني أنك تعي وأنت ترفل في النعمة وتفترش الطمأنينة وتتدثّر بالأمن، أنّ لك أخاً أو ابناً أو أباً يضحي من أجل العَلَم ومن أجلك في ساحات الرجال وميادين الأبطال على خط الموت في معارك تحرير اليمن من عبيد الفرس وعصابات الموت المأجورة، وأنه كما حماه بأغلى ما يملك دون تردد، ينبغي على كلٍ منا ألا يبخل على هذا الوطن بكل ما هو جدير برفع أسهمه وإعلاء شأنه، وأنْ نكون جديرين بحمل اسمه بحسن تصرفاتنا، حيثما حللنا وبطيب معشرنا لكل من نعيش معه.

من لاحظ كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، في العديد من لقاءاته بأبناء شعبه، سينتبه لجملة كثيراً ما يردّدها وهي: «دورنا نحمل الراية لين نسلمها للي بعدنا بالعزة والكرامة»، فالقضية ليست مجرد حمل راية، بل لا بد أن تُراعى حقوقها، وأن تَبذُلَ الأرواحُ أقصى ما تستطيع لتبقى «عزيزةً» لا تخضع لأحد، «كريمةً» لا تقبل بأنصاف الأمور، كما رفعها زايد والمؤسسون يجب أن تبقى كذلك، يحملها كابرٌ عن كابر، تسقط دونها الهامات لتبقى شامخة، وتسيل لشرفها الدماء لتظل خفّاقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ونردّد دوماً وهي تضرب صدر السماء: «حصّنتك باسم الله يا وطن».

المصدر: البيان