علي عبيد
علي عبيد
كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة

ماذا يفعل هذا السفاح في حلب؟

آراء

بلحيته البيضاء، وعصابة رأسه السوداء، وقلبه الممتلئ حقداً، شاهد العالم صوره وهو يتجول بين أنقاض المدينة الحزينة، ويمر من أمام قلعتها الشهيرة. في عينيه نشوة الغازي المنتصر، وفي ابتسامته شماتة العدو غير المستتر، وعلى وجهه سمات الكذاب الأشر. إنه قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، وإنها حلب الشهباء العربية الحزينة، لكنها غير المنكسرة، لأن المدن العظيمة قد تحزن عندما تحل بها الكارثة، لكنها أبداً لا تنكسر.

كيف وصل هذا السفاح الإيراني إلى هذه المدينة العربية العريقة؟ من فتح له الطريق إليها؟ من سمح له بأن تطأ قدماه ترابها؟ كيف هانت الأرض على أهلها فأتاحوا للغرباء أن ينتهكوا حرمتها؟ كيف سمحوا لهم أن يلوثوا هواءها؟ إنها ورب الكعبة لمأساة كبرى، وإن من سمح بحدوثها لمسؤول عنها ومحاسب إلى يوم الدين.

مثل الطاووس كان يتجول بين أنقاض المدينة المنكوبة وحول قلعتها، يكاد يرتفع عن الأرض من الغرور، وأمامه كان يمشي قائد عمليات قوات النظام بالمنطقة، كأني به يصطحبه في جولة سياحية، وحولهما ينتشر الدمار والخراب في كل مكان، لأن الغزاة لا يعمّرون الأوطان، وهم لا يحترمون من يخون وطنه مهما قدم لهم من فروض الولاء والطاعة والإذعان.

من أدخل هذا السفاح أقدم مدن العالم؟ من مهد له الطريق كي ينتهك حرمتها؟ من مكنه من تلويث هوائها؟ ألم يعلموا أن المدن العظيمة محرمة على السفاحين والمجرمين؟ ألم يعلموا أن ترابها أطهر من أن تطأه أقدامهم؟ ألم يدركوا أن وجودهم فيها ضد حركة التاريخ؟ ألم يفهموا أنها خالدة وأنهم زائلون؟

لهفي عليك يا حلب.. فلو علم خالد بن الوليد وأبوعبيدة بن الجراح وجنودهما الذين فتحوك أن قاسم سليماني وجنوده يعيثون الآن خراباً في أرضك لخرجوا من قبورهم وحاربوهم، ولألحقوا بهم هزيمة أكبر من تلك التي ألحقوها بالروم وحلفائهم قبل أربعة عشر قرناً، ولدافعوا عنك كما دافع أحفادهم، وحموك بأرواحهم.

لهفي عليك يا حلب.. فلو علم مؤسس إمارتك سيف الدولة الحمداني أن قاسم سليماني وجنوده يطأون اليوم أرضك بأقدامهم النجسة، لخرج من قبره كي يغسل عارك، ويعيد إليك هيبتك، ولواجههم كما واجه الإخشيديين والبيزنطيين وغيرهم، ولجمع حوله الشعراء والنحويين والعلماء والفلاسفة من جديد، ولأعاد لك مجدك كما كان قبل ألف عام تحت رايته.

لهفي عليك يا حلب.. فلو عرف أبو الطيب المتنبي أن المدينة التي أحبها قبل ألف عام يدنسها اليوم قاسم سليماني وجنوده، ويلطخون ترابها بأحذيتهم، لخرج من قبره لينشد فيها أجمل القصائد كما كان يفعل، كي يعيد إليها مجدها، ويحفظ لها تاريخها الذي يحاول الغزاة الجدد أن يمسخوه، ليكتبوا تاريخاً جديداً ببنادق جنودهم التي تغتال الأطفال والنساء، وتنشر الخراب في كل مكان.

لهفي عليك يا حلب.. فلو علم أبوفراس الحمداني ما حل بمدينته الحبيبة على يد قاسم سليماني وجنوده، لكان أسره من قبل الروم أهون عليه من وقوع مدينته في أيدي الفرس، ولذرفت عيناه «عصيتا الدمع» من الدموع ما أغرق حلب وطرقها، وطرد المعتدين منها، ونظفها منهم.

لهفي عليك يا حلب.. فلو علم أبونصر الفارابي أن مدينته الأثيرة قد دنسها الأوغاد لبكى حسرة عليها، وتذكر الأيام الجميلة التي قضاها في كنف سيف الدولة، والليالي التي أمضاها عاكفاً على المطالعة والتصنيف، مكتفياً بقنديل حارس، رافضاً كل مغريات المال والجاه من أجل حلب وعيونها.

لهفي عليك أيتها المدينة التي كشفت عورة من يتاجرون بالأوطان، ونزعت الأقنعة عن وجوه من يدعون أنهم حماة البلدان. ها هم الغرباء اليوم يخترقون قلعة من قلاع العروبة الحصينة، ويجوسون خلالها دون خوف أو خجل، فسحقاً لمن أدخلهم إليها، وسحقاً لمن خدعنا بالشعارات.

لهفي على أطفال حلب وهم يخرجون من بين الأنقاض ممزقة أشلاؤهم، مسفوكة دماؤهم، مبقورة بطونهم، مشوهة وجوههم، مغتالة براءتهم، مطعونة كرامتهم، مسلوبة إرادتهم، مغمضة عيونهم. لهفي على نساء حلب وهن يشاهدن رجالهن يذبحون على أيدي الغزاة، وأطفالهن يفرون من الموت إلى الموت. لهفي عليهن كيف يهنأن بالحياة وسط هذا الجحيم، وإلى من يلجأن بعد أن أسلمهن حماة العروبة المزعومين إلى الجلادين، وكيف يعرفن بعد هذا الطريق إلى النعيم؟

أيتها المدينة من أدخل هؤلاء الأنجاس من كل الأجناس إلى أرضك؟ من شرد أهلك؟ من سفك الدماء على ترابك؟ من سمح للمجرمين والسفاحين أن يتبختروا في شوارعك؟ من أباح لهم أن يقتربوا من قلعتك؟ من أعطاهم الحق كي تكون لهم الكلمة في تقرير مصيرك؟

لا تحزني أيتها المدينة العظيمة، فلن يرحم التاريخ سفاحيك ومنتهكي كرامتك، لن يرحم قاتلي أطفالك ونسائك، لن يرحم حارقي أرضك. سوف تجرفهم المياه الآسنة، وسيأتي مطر يغسل أرضك من الأدران التي خلفوها. صحيح أن التاريخ سيكتب أن السفاحين مروا من هنا، لكنه سيقول إنهم قد ذهبوا إلى غير رجعة، يلحقهم الخزي والعار، وسيكتب أن شمساً قد أشرقت لتعيد إليك بهاءك، فلا موطئ قدم للغرباء في حلب الشهباء، ولا مكان للخونة في سجل الشرفاء.

المصدر: البيان