علي عبيد
علي عبيد
كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة

مبروك.. نقلنا المعركة إلى لندن

آراء

يبدو أننا قد قلبنا الطاولة على رؤوس الغربيين، وبدلا من أن يشعلوا هم الحرائق على أرضنا، ويديروا المعارك بيننا، فسوف نشعل نحن الحرائق على أرضهم، وندير المعارك فيها، وعلى الباغي تدور الدوائر.

أول البشارات جاءت الأسبوع الماضي من لندن، حيث اشتعل اقتتال “سني شيعي” في شارع “ادجوار رود”، المجاور لحديقة “هايد بارك” الشهيرة في العاصمة البريطانية، والقريب من شارع “أوكسفورد” التجاري السياحي، والمعروف جيدا لدى السياح والمقيمين العرب في لندن.

المعركة، وفقا لرواية مراسل “العربية نت” الذي كان شاهدا عليها، انطلقت شرارتها الأولى بعد صلاة الجمعة، عندما نظم مهاجرون، معظمهم باكستانيون، مظاهرة مؤيدة للثورة على النظام السوري، سار فيها أكثر من 400 مشارك، حاملين يافطات، ومعلقين شعارات ضد الرئيس بشار الأسد وحلفائه، وعلى رأسهم الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، شاملين بهتافاتهم إيران ورئيسها وقادتها.

بدأت المظاهرة سلمية كما تبدأ المظاهرات عادة، لكنها ما أن وصلت إلى شارع “ادجوار رود” المكتظ بالمطاعم العربية، والمحلات التي يملكها مهاجرون عرب من مختلف البلدان، حتى بدأ التلاسن بين المتظاهرين وبعض العاملين والمقيمين في الشارع ومتفرعاته والمترددين عليه، ليبدأ بعدها التقاتل أمام أحد المطاعم اللبنانية، بين أبناء الطائفتين السنية والشيعية، كما بدا واضحا في الفيديو الذي التقطه أحد المارة في الشارع.

قتال الطوائف هذا لم يكن هو سيد المشهد وحده، بل صاحبه قتال عرقيات، عندما استغل الفوضى زبون كان يدخن الشيشة على رصيف أحد المطاعم، فهاجم كرديا كان من بين الهاتفين ضد النظام السوري وأصابه بجراح. عندها تدخل بعض العراقيين، نصرة للمواطن العراقي المعتدى عليه.

وشاركوا في الاقتتال، لتتسع ساحة المعركة، وتضطر الشرطة البريطانية للتدخل وتفريق المتعاركين، والحيلولة دون استمرارهم في ما كانوا عليه من هستيريا الاقتتال، وفض المعركة الأممية الطائفية المذهبية العرقية، الدائرة على الأرض البريطانية.

واضح أن معركة “ادجوار رود” ليست إلا صورة مصغرة لما يحدث على الساحة الإسلامية بشكل عام، وعلى الأرض العربية بشكل خاص، من صراعات طائفية مذهبية عرقية، لا يعلم إلا الله إلى أي مصير ستقودنا، وعلى أي حال ستتركنا، وكم من الخسائر ستكبدنا. وواضح أيضا أننا ننساق دون وعي، نحو ثقب أسود سوف يؤدي بنا إلى قاع سحيق لن نستطيع الخروج منه.

وإذا قُدِّر لنا وخرجنا منه فسوف نخرج بخسائر كبيرة، أقلها تغيير خارطة المنطقة العربية، وتقسيمها إلى “كانتونات” صغيرة ضعيفة ممزقة، قائمة على الطائفة والمذهب والعرق، يتسلح كل “كانتون” منها لحماية نفسه من “الكانتون” الآخر.

وهي نتيجة لو وصلنا إليها فإن هذا يعني دخولنا نفقا مظلما لن نعبره بالسهولة التي نتصورها، لكن الحسابات الخاصة بكل طائفة أو مذهب أو عرق، لا تجعل كلا منها ترى أبعد من مصلحتها القريبة، وتتعامى عن المصلحة البعيدة والعليا للأمة المنقسمة على نفسها.

الذين فرحوا بمعركة “ادجوار رود” واعتقدوا أنهم نقلوا المعركة إلى داخل المجتمعات الغربية، مخطئون. فهذه المجتمعات تنظر إلى ما هو أبعد من هذه المعارك الصغيرة.

وتعمل على حماية نفسها من أخطار المستقبل الكبيرة، وتعتبر مثل هذه المعارك مؤشرات لما هو أخطر منها. فقد تناولت صحيفة “الغارديان” البريطانية الأسبوع الماضي، ملف المجاهدين الأوروبيين الذين خرجوا من بلادهم لمقاتلة النظام السوري، والمخاوف المترتبة على عودتهم إلى أوطانهم، وما قد يشكلونه من خطر على المجتمعات الأوربية.

وألقت الصحيفة الضوء بالتحديد على المخاوف الألمانية من عودة نحو 40 شخصا يحملون جوازات سفر ألمانية، ذهبوا للقتال في سوريا إلى جانب قوات المعارضة، من أصل 700 مقاتل من مختلف الدول الأوروبية، وفقا لحسابات الحكومة الألمانية. لذلك فإن معركة مثل معركة “ادجوار رود”، تعطي مؤشرا للخطر الذي يمكن أن تمثله الجاليات والعرقيات والإثنيات المهاجرة، على المجتمعات الغربية.

هذه المخاوف ليست نابعة من فراغ أو حسابات وهمية، وإنما قائمة على تجارب سابقة، أبرزها التجربة الأفغانية المريرة، التي أدت إلى ظهور تنظيم “القاعدة” في ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن شجع الكثير من الدول العربية والإسلامية وبعض الدول الغربية، مواطنيها المسلمين على الذهاب إلى أفغانستان، والانخراط في سلك المجاهدين لمحاربة النظام الموالي للسوفييت آنذاك، بمباركة ودعم من الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية..

حتى إذا ما انتصر المجاهدون الأفغان، وانهزم السوفييت والنظام الموالي لهم، تحولت أفغانستان إلى عاصمة للتطرف الإسلامي، وانتهى المشهد بهجمات الحادي من سبتمبر عام 2001، وما تلاها من حرب على الإرهاب والتطرف، أدت إلى تغيير خارطة المنطقة السياسية وتوازناتها المعروفة، بعد أن تم القضاء على أنظمة كانت موجودة، ونشوء أنظمة جديدة لم تكن قائمة.

واختفاء تحالفات وظهور تحالفات جديدة، وفوضى عارمة قادتنا إلى المشهد الذي نراه اليوم ولا نفهمه. فهل ترانا نعيش الفصل الأخير من رواية كتبها لنا الغير بخبث وحبكة وبراعة عجزنا عن إدراكها، وقمنا نحن بأداء أدوارها دون وعي منا بالنهاية المأساوية التي ستنتهي عليها أحداثها؟!

نتمنى أن لا تكون أكثر من رواية خيالية لا حقيقة لها على الأرض، لكن الواقع يقول إنها غير ذلك، والنتائج الكارثية التي سوف تنتهي بها هذه الأحداث، تقول إننا سوف نظل نعاني من آثارها عقودا، الله وحده يعلم عددها، ويعلم وحده كيف سنخرج منها.. هذا إن كان ثمة خروج منها في المستقبل المنظور لهذا الجيل والأجيال القادمة من أبنائنا وأحفادنا، الذين سوف يرثون منا تركة أثقل من تلك التي ورثناها من الأجيال التي سبقتنا.

المصدر: البيان