مرة أخرى.. السينما قادمة، ولكن من سيمول الفيلم السعودي؟

آراء

منذ أن دخلت عالم «تويتر» ألزمت نفسي بمسألة مهمة أراحتني من كثير من الصداع، وهي ألا أدخل في نقاش جدلي لا طائل من ورائه، وألا أرد على أصحاب المعرفات المجهولة والأسماء المستعارة ولا على أصحاب الآراء المتشنجة والشتائم، وقد شبهت أصحاب الأسماء المستعارة بالذين يجلسون متلثمين في مجلس رجال، و«تويتر» هو أقرب إلى الشارع أو الساحة العامة منه إلى مجلس الرجال، تقول فيه شيئاً فيمر بك من يبتسم بوجهك ويربت على كتفك موافقاً، وآخر يقف معك قليلاً ليسمع ما تقول، وقد يدعوك أحدهم إلى فنجان قهوة ليحاورك بتحضر، ولكنك لا تسلم بالضرورة من بعض من يعبس أو يصرخ بوجهك أو يشتمك أو يصنفك ويخرجك من الملة لأنه لا يتفق معك، وهذه الفئة الأخيرة هم من الملثمين غالباً.

هذا يحدث معي كثيراً، وقد يحدث مع كثير منكم، الفرق هذه المرة هو أن التعليقات لم تكن عن رأي قيل في تغريدة موجزة عابرة، وإنما عن مقالة في موضوع جدلي نشر هنا الأسبوع الماضي عن موقف بعض المحتسبين والعلماء والدعاة من السينما، وأن هذا الموقف يتقوقع في إطار مبدأ سد الذرائع، فيكتفي بالنظر إلى السلبيات المحتملة من دون أن يستشرف المكاسب المتوقعة، واستشهدت في المقالة بمناصحة مباشرة من أحد الإخوة المحتسبين وبرأي معلن للشيخ الفاضل صالح المغامسي (الحقيقة أن رأي الشيخ كان في عام 2012 وقد لا يصح الاستشهاد به الآن).

وبعيداً عن التأييد والرفض والشتائم والتكفير والاتهام بالردة، والعياذ بالله، فإن أحد المعلقين نبهني إلى أن الشيخ المغامسي اشترط في مداخلته أن يتم إنتاج مجموعة من الأفلام «النافعة» قبل افتتاح دور السينما، ووجدت أن آخرين يتبنون الرأي نفسه، وبعضهم شكك في قدرتنا على إنتاج فيلم سعودي حقيقي قادر على المنافسة في شباك التذاكر، وآخرون لا زالوا يقولون أن السينما انتهى عصرها منذ أن دخل التلفزيون، جاهلين أو متناسين أن السينما لازالت صناعة قوية نامية ذات مداخيل هائلة في كثير من دول العالم، وهناك من أبدى خشيته من تحول القاعات إلى مساحة للاستثمار في التفاهة على اعتبار أن كثيراً من المغامرين سيعمدون إلى إنتاج أفلام مسلوقة و«شبه سعودية» تقدم الترفيه الرخيص، شبيهة بحالة أفلام المقاولات التي أنتجت في مصر وموّل بعضها مستثمرون سعوديون، وهي خاصة بالتصدير إلى الأسواق السعودية أيام ازدهار محال تأجير الأفلام السينمائية، ثم محال الفيديو، وبعضهم عندهم من اليأس وضعف الإيمان بالقدرات الذاتية ما يجعلهم يرفضون الفكرة من منطلق أننا لن نتمكن ولو بعد قرون من اللحاق بركب السينما العالمية، وأن التفكير بإيجاد صناعة سينما سعودية هو من العبث الذي لا نحتاج إليه.

وكل الأسئلة والمخاوف مشروعة، لذا يجب علينا مناقشة السؤال الأكثر أهمية، وهو هل نحن قادرون على إنشاء صناعة سينما قوية تمثلنا وتروي حكايتنا وتقدم قيمنا وتاريخنا ومواقفنا وتناقش قضايانا؟

للإجابة على هذا السؤال، أو الشرط الذي وضعه المغامسي وآخرون، يجب الإشارة إلى أن أي صناعة سينما قوية تحتاج بداية إلى قاعدة تسويقية محلية قوية تتمثل بوجود قاعات السينما، ذلك أن السينما ليست شبيهة بالتلفزيون الحكومي الذي يشتري ويعرض العمل الدرامي اعتماداً على حكم لجنة المشتريات وليس بناء على تقارير إحصاءات المشاهدة التي تجذب المعلن، وبالتالي تمول العمل.

السينما يحكمها شباك التذاكر، وهذا الشباك هو «الدجاجة التي تسبق البيضة»، وهو الحكم والناقد الأكثر قوة القادر على إنجاح عمل ما أو إسقاطه سريعاً، والفرصة في المملكة مع اتساع سوقها وكثافة السكان مع قدرتهم الشرائية – على رغم ضريبة القيمة المضافة – هي أكبر دافع لقيام هذه الصناعة ودخول المستثمرين من القطاع الخاص فيها، والفيلم الذي سيعرض في قاعات العرض السعودية لمدة أسبوعين فأكثر سيضمن أنه سيسترد رأسماله مع أرباح جيدة، وهذا الأمر لم يكن ليتوافر للمحاولات السينمائية في بعض الدول العربية، ومنها دول الخليج، ولذا توقفت محاولات السينما الكويتية، مثلاً، عن إنتاج الأفلام الروائية الطويلة بعد فيلمي خالد الصديق الشهيرين «بس يا بحر» و«عرس الزين» وربما بضعة أفلام أخرى.

وحضور القطاع الخاص في الإنتاج السينمائي لا يغني عن التمويل الحكومي الذي يجب أن يأتي في شكل صندوق لتمويل الأفلام السعودية تتبناه الهيئة العامة للثقافة أو هيئة الإعلام المرئي والمسموع يكون قادراً على المساعدة في إنتاج أفلام ذات مستوى فني وموضوعي عالي المستوى قد يتردد القطاع الخاص في المغامرة بتمويلها.

وعلى صعيد المحتوى، فإن التجارب التي قدمت خلال العامين 2015 و2016 تثبت قدرة السينمائيين السعوديين على تقديم محتوى سعودي خالص قابل للمشاهدة وجذب الجمهور في الداخل والخارج، بل فإنها قادرة على الصمود أمام تجربة شباك التذاكر. فيلم «وجدة» للمخرجة هيفاء المنصور، وفيلم «بركة يقابل بركة» للمخرج محمود صباغ عالجا قضايا اجتماعية بحرفية عالية وبإحساس لا يقدر عليه إلا مواطن يتعايش مع هذه القضايا يومياً، ويمتلك من الحرفية، ما يسمح له بتقديم رؤية سينمائية مميزة، أما أيمن جمال فقد قفز إلى تجربة عالمية المستوى حين قدم فيلم «بلال» عن قصة الصحابي الجليل بلال بن رباح رضي الله عنه، باستخدام تقنية الرسومات الكمبيوترية الشديدة الإتقان وبفريق عالمي في التنفيذ والتصميم والموسيقى والمونتاج، بل إنه استعان بصوت الممثل العالمي ويل سميث في أداء دور بلال. فهل أنا بحاجة لسرد الإمكانات الهائلة من مخزوننا التاريخي والتراثي والأدبي المعاصر الذي يمكن تحويله إلى رؤية سينمائية تعرض على الشاشات المحلية والعالمية؟

أستطيع هنا – لولا ضيق المساحة – أن أسرد أسماء العشرات من المخرجات والمخرجين السعوديين الذين قدموا إنتاجهم من الأفلام القصيرة ونافسوا على جوائز المهرجانات المحلية والإقليمية والدولية، وهم ينتظرون الفرصة للانتقال للعمل السينمائي الروائي الطويل، وأتطلع للمستقبل بصورة أكثر تفاؤلاً حين أذكر أن جامعة عفت بجدة خرّجت العام الماضي أول دفعة من المخرجات الشابات.

الإمكانات هائلة جداً لاستخدام السينما في ترسانة قوتنا الناعمة، فقط لنتوقف عن الجدل العقيم، ولنعمل على تدعيم هذا القطاع الواعد.

المصدر: الحياة