جمال خاشقجي
جمال خاشقجي
كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية

مظاهرة تدعو لتخفيض الرواتب!

آراء

تذكرت فريد هاليدي المستشرق الإيرلندي العظيم، بعدما اقتنيت كتابه «الصراع السياسي في شبه الجزيرة العربية» الذي عرّبه وكتب مقدمته الصديق الأستاذ محمد الرميحي الذي كان يعرفه جيداً.
توفي هاليدي قبل عامين ولا يزال محبوه وتلامذته يفتقدونه، فهو مؤرخ ومفكر وراصد وصحفي غير عادي، خاصة بين أهل اليمن، ولكي أكون أكثر دقة، أهل الجنوب منه، ذلك أنه كتب الكثير عن اليمن الجنوبي وما حوله، كأنه عندما كان يكتب عن عُمان، أو إمارات الخليج، أو السعودية أو حتى اليمن الشمالي، فكان ذلك لأنهم جيران، موضوعه المفضل «اليمن الجنوبي».

لم يكن يكتب التاريخ باستعراض الأحداث الهامة وتحليلها فقط، كان يفعل ذلك بالطبع، ولكن ينثر على حواشيها ما جمع من فولكلور، قصاصات صحف، بل حتى الأهازيج وشعارات المظاهرات، ينقلك إلى ذلك الزمان الذي اندثر ولا يريد أحد عودته، زمن «جمهورية جنوب اليمن الديمقراطية الشعبية»، نعم كان ثمة بلد عربي وعضو في الجامعة العربية وفي جنوب السعودية يحمل كل هذا الاسم الطويل، كان قادته ماركسيين حالمين بتأسيس جنة لماركس ولينين في أكثر بلاد العرب فقراً وتخلفاً، وأين في جنوب جزيرة العرب مهد الإسلام والعروبة.

البعض رآهم عملاء للسوفييت، ولكن هاليدي رآهم شباباً حالمين يريدون انتشال بلادهم من العوز والفقر، ولكنهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعاً، لم يكونوا فاسدين مالياً وأخلاقياً كالقذافي ديكتاتور ليبيا الهالك، ربما لأنه لم يكن في بلادهم البائسة بمواردها الغنية برجالها ما يفسدهم، ولكنهم كانوا قتلة، يقتلون خصومهم وبعضهم البعض، مستعدين لسحل علماء الدين وإهانتهم، كانوا ماركسيين يعيشون بظاهر النص بدون تأويل أو اجتهاد.

حضرت له محاضرة في «سواس» مدرسة الدراسات المشرقية والإفريقية الشهيرة التابعة لجامعة لندن، تحدث هاليداي بلباقة وخطابية قصصية ممتعة، كان أمامه مسجل كاسيت من ذلك الطراز القديم. تحدث عن الحياة الاجتماعية في جمهورية جنوب اليمن، وكيف كانت الثورة بسذاجة تحرك الشعب يمنة ويسرة، قال إنهم كانوا خليطاً من الشر والخير، يحلمون بمثالية، ولكن يتصرفون كحكام قساة يتصرفون مع الشعب كجهلاء ويرون أنفسهم طليعة متقدمة، ضرب مثلاً بأزمة مالية مرت بها جمهوريتهم الاشتراكية البائسة، فكان لزاماً عليهم أن يتم تأجيل صرف رواتب الموظفين وفي ذلك خطر سياسي، ففكر أحدهم في حل ثوري، تحريك الشارع للخروج في مظاهرات تدعو لتخفيض الرواتب من أجل إنقاذ «دولة العدالة الاجتماعية الماركسية» وهذا ما كان، وشغل المسجل على صوت متظاهرين يهتفون بضرورة تخفيض الرواتب، قال لعلها كانت أول مرة في التاريخ يخرج فيها شعب يدعو لخفض الرواتب.

يتذكر طلبته كيف كان يزودهم بمثل هذه الشرائط بالإضافة للدراسات والكتب، هكذا كان التاريخ حياً عنده.
حياته كانت غير مستقرة، ينتقل من جامعة لأخرى، ومن مدينة لأخرى، ومن زواج لغيره، ومن بيت لآخر، وفي السياسة من موقف لآخر، اختصرها مرة في إجابته عن صحفي سأله «أي مكان أحببت أكثر؟» فرد قائلاً:«إنه المكان التالي دوماً»، أرجو أن يكون سعيداً حيثما استقر الآن.

المصدر: مجلة روتانا