محمد الرميحي
محمد الرميحي
محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت

ملامح عام خليجي جديد

آراء

كان يمكن أن يكون لمجلس التعاون العربي في الخليج، أحد عشر عنوانا، ولكن حكمة المرحوم الشيخ زايد جعلته ستة فقط، باحتواء سبعة عناوين وصهرها في عنوان واحد، العناوين السابقة لم تلغَ ولكنها مرصوصة في بنيان دولة واحدة تتعمق هويتها أكثر وأكثر، وتظهر لأهلها بمرور الزمن أهمية ذلك البنيان الذي سعى إليه المرحوم وحققه. العالم من حولنا يحب العناوين الواضحة والمجمعة، والتشتت في العناوين تقعد الآخر عن التواصل معها، كما تغري الطامع على تجاوزها، كما تفتقد قدرة على المناورة تقريبا في كل شيء.

كان يمكن أن يخرج الاجتماع الذي عقد في الكويت للقمة الخليجية الرابعة والثلاثين قبل أسابيع، باختصار في العناوين بشكل ابتكاري، يقي المنطقة سوءات التحولات الحادثة حولها، كما يرسل رسالة للأصدقاء أولا ثم الأعداء أن المنطقة تستطيع أن تقيم حائطا منيعا للصد، إلا أن ذلك الاختصار لم يتم، أو قد أرجئ إلى وقت آخر ومكان آخر، وقد يستطيع الإنسان أن ينتظر أما الزمن فلا ينتظر!

نحن أمام مدرستين في التفكير الاستراتيجي الخليجي، واحدة تهون الأمر، وترى في كل العواصف حول الخليج كونها عواصف بعيدة تضرب بقوتها مكانا آخر وأقواما آخرين.

ومدرسة ثانية ترى أن ما حولنا سوف يفيض علينا، وهو باختصار حزمة من فتن طائفية وحروب أهلية، وأحد المشهيات لتلك الإفاضة فرقتنا. التحوطات لتقليل تأثير الإفاضة، ولا أقول لمنعها، هي أن نقيم حائط صد من خلال اختصار العناوين المتفرقة اليوم، لتصبح عنوانا سياسيا يخاطب العالم من خلال إعلاء قدرته على الترغيب أو الترهيب.

أنتمي إلى المدرسة الثانية، فباستعراض الأحداث الجسام خلال العالم الماضي، وإن أردنا التحديد فخلال الأعوام الثلاثة السابقة، يشي بقدر ضخم من التغيرات الجوهرية والعميقة حولنا. لنأخذ إيران التي لم يكن قد فارقها الحلم الإمبراطوري منذ سنوات طويلة، لقد حققت في العقود الثلاثة والنيف الماضية ما كان قد حلم به الإمبراطور الإيراني لسنوات، وهي تنفذ سياسة خارجية لها جذور داخلية وقومية، تلك السياسة في إطارها الأوسع والحقيقي صراع سياسي محتدم، يستخدم الغطاء الطائفي، لأنه أسهل في الحشد والأكثر إغراء في التضليل، إلى درجة أن البعض يرغب في تجاوز حقيقة أنها في وقت ما استضافت عناصر من «القاعدة» (التكفيرية) تحت شعار يجمع الاثنين، وهو حرب الشيطان الأكبر، وهو أحد أكبر الأدلة على أن الصراع سياسي ليس مذهبيا.

إيران اليوم ذات نفوذ معزز في بغداد، وذات يد طولى في سوريا مدعومة بسلاح ومال ورجال، وذات يد حديدية في لبنان من خلال جهاز حزب مدجج بالسلاح ومتبوع بعدد غير قليل من الناس، مطيع إلى حد الاشتراك في معارك قتالية، أين توجه بندقيته طهران، يضرب. ويمتد نفوذ طهران في الخاصرة العربية في اليمن وأيضا على أطراف الخليج بقوة معنوية وتنظيمات تأخذ أشكالا مختلفة، منها المتعاطف بسبب الشعارات المرفوعة، أو تبعية بسبب الهوى العاطفي المذهبي.

باختصار لإيران قدرة على التحريك والتجهيز، كما لديها قدرة على المناورة لتحقيق خلل بالغ في الجسم العربي، ومن ثم الخليجي.

من جهة أخرى فإن التراجع الغربي بات واضحا للعيان رغم كل التطمينات التي تطلق بين فترة وأخرى، فالقوة التي تحتفظ بها الولايات المتحدة في الخليج، وحسب اعتراف وزير الدفاع الأميركي أخيرا في المنامة هي ثلاثون ألف جندي، هناك من حزب الله في سوريا ما يفوق ذلك العدد! ينظر الغرب إلى ما يحدث في مصر وهي الدولة العربية الكبرى، على أنه صراع داخلي، لم تقرر العواصم الغربية حتى الآن أي جناح ترغب في تأييده، وتدخل تلك الدولة في خلاف داخلي تتصاعد وتيرته، قد يأخذها إلى مكان ما من تعطيل دورها الإقليمي، وهو أمر يكشف جزءا كبيرا من الظهير الاستراتيجي الخليجي الذي بنيت لبناته في السنوات الثلاثين الأخيرة. في بعد آخر هناك مجاميع خليجية أخرى لها امتدادات وعلاقات تنظيمية وآيديولوجية تناصر هذا الفريق الإقليمي أو ذلك، ليست بعيدة عن الاتصال بالتكوينات الخارجية، ويهمها بالطبع أن تستفرد بدول المنطقة أو على الأقل تحدث تشوهات في نسيجها الاجتماعي من أجل إحداث وهن فيه.

بناء جيش موحد وقادر على مواجهة التحديات الذي وافقت عليه قمة مجلس التعاون أخيرا، هو حل جزئي ولكنه ليس الأمثل، فطريق ذلك البناء قد يطول، ويدخل في تفاصيل تعطل أو تؤخر إتمام هيكله، في الوقت الذي يطالب فيه الناس بقرارات سياسية لها مضامين اقتصادية ودبلوماسية ترسل رسائل واضحة، لتؤكد أن التركيبة الديموغرافية والثقافة السياسية في هذه المنطقة تستطيع أن تقترب من بعضها دون عقبات أو تلكؤ. فإيران والعراق وسوريا واليمن هي مناطق التهاب ومجاورة إلى تراب المنطقة، تجاور العضد للساعد، ولا تحتاج إلى كثير وقت حتى ينتقل وهن الساعد إلى العضد! كما أن تداعيات ما يحدث في مصر ليست هينة أو بسيطة ولا حتى آنية أو مؤقتة، فتلك الدولة سوف تنشغل بما في داخلها لفترة طويلة، وقد تفيض مشكلاتها الآيديولوجية على المنطقة.

في مكان آخر استمعنا جميعا إلى خطاب حسن نصر الله في بيروت الأسبوع الماضي، كان واضحا وصريحا فيما يقصد، وقراءتي لذلك الخطاب أن الخطة الإيرانية يهيأ لها، وهي أن يسعى حزب الله أولا لإحداث فراغ في لبنان قاس وطويل، وثانيا أن يضعف المكونات الأخرى المناوئة له مسيحية أو مسلمة، ثم يغري بعض حلفائه بإطلاق يده في كل لبنان، تلك الخطة هي أن يكون لبنان بديلا جاهزا وموضوعيا لفقدان سوريا إن تم، وركيزة إيرانية على البحر الأبيض، ومنصة انطلاق لفرض معطيات جديدة على المجتمع العربي والغربي، ينشر حزب الله حزمة من الشعارات، مقاومة، فلسطين، سوريا، وهي لا معنى لها إلا للسذج أو من في آذانهم وقر، هي في الحقيقة مجموعة مصالح إيران القومية التي يسعى لتنفيذها.

طبعا لا تفكر طهران في خسارة نهائية في سوريا، فهي ترى أن تحتفظ بكل سوريا كما كانت، أو بجزء منها إن قسمت، أو بتعويضها بلبنان إن ضعف حولها الطوق الإيراني. أما بغداد فإن استخلاصها من النفوذ الإيراني في المدى المنظور شديد الصعوبة إن لم يكن مستحيلا.

الخلاصة أن أمام أهل الخليج سنوات صعبة، والتخوف من الإقدام على تحصين المنطقة عن طريق تمتين هياكلها الوحدوية، بانتظار أن يقر المجموع شيئا من تصليب الموقف، هو خيار لا تستطيع دول الخليج، خاصة الصغيرة، أن تركن إليه أو تنتظره طويلا، وأسوأ انتظار هو انتظار المجهول.

آخر الكلام:

يتأرجح أهل الخليج بناء على ما يحوطهم من اضطراب بين مرارة الخيبة وبوادر الأمل، فهل تحمل السنة الجديدة تأكيد الأمل وتقليل عناصر الخيبة؟ عام سعيد للجميع.

المصدر: الشرق الأوسط