جمال الشحي
جمال الشحي
كاتب و ناشر من دولة الإمارات

مليارات من ورق

آراء

قال حكيم أوماها عندما تبرع بمعظم ثروته لصالح مؤسسة بيل غيتس الخيريه «سأترك القليل من المال لأولادي ليعملوا، فلو تركت لهم الكثير فلن يعملوا شيئاً أبداً» وفي تصريح آخر أوضح البليونير وارن بَفِت أنه لا يريد التعامل مستقبلا مع الأمور المالية في هذه المؤسسة الخيرية.

في الغالب يكون التنازل عن جزء كبير من الثروة لصالح الأعمال الخيرية، قرارا قاسيا وشجاعا ونموذجا أخلاقيا نبيلا ينفرد فيه بعض الأغنياء عن بعضهم، حيث إن النظرة إلى المال تختلف من شخص إلى آخر. فالكثير من الأغنياء لهم نظرتهم الخاصة في الثراء، كما أن لهم طرقهم الخاصة في تحصيل الثروة وإنفاقها، فالبعض مشى للثروة وآخرون ركضوا لها، ولذلك يختلف الثراء الحقيقي الذي أتى نتيجة جهد وتعب، عن الثراء الناجم عن الإرث والهِبات التي يتلقاها البعض.

كثير من قصص الثراء في محيطنا غامضة وغير واضحة ولا يوجد كثير من قصص الكفاح في هذا المجال يقدر أن يستفيد منها الطامحون للثروة، وتكون أنموذجا وقصة نجاح يهتدي بها المبتدئون. العصاميون في الغرب بنوا ثروتهم بصعوبة، في ظل دولة المؤسسات ورقابة إعلامية تلاحق الفساد ووجود ضرائب عالية على دخل الفرد. أما في محيطنا العربي فالوضع مختلف وأسباب الثراء الشرعي وحتى غير الشرعي عند البعض ما زالت مجهولة.

للثروة أسرار، وتأكد جيدا أن القليل من الأثرياء اليوم قد يشاركونك في أسرار ثرائهم. المال والثروة قد تكونان معضلة تحتمل الكثير من الأسئلة، فالطريق للثروة مثير ومحفوف بالتحديات والمخاطر.

والسؤال الذي يتبادر في الذهن: هل هناك تضحيات نقدمها بالانغماس في الحياة المادية للوصول إلى الثراء؟ ولماذا يختار البعض رغم ثرائه أن يعيش حياته ببساطة وعفوية؟

يقول محدثي؛ عندما يصبح أحدهم غنيا، يجب أن نذهب إليه ونهنئه لانه، كما يقول، بالغنى تقدر أن تحارب الفقر وتساعد الفقراء!

هناك جوانب غير مريحة تبرز في طريق الثروة، قد يعاني منها بعض المنجرفين في هذا الطريق، ومنها الإسراف في الحياة المادية التي تصبح لا إراديا قمقما يضيق بالإنسان. يجعله يعيش في صراع داخلي متناقض بين ميوله المادية التي تستلزم الكثير من الوقت والجهد والتركيز، والتزاماته الشخصية والعائلية التي تتطلب وقتا وجهدا، وهي ككل الأشياء المعنوية والعاطفية في حياتنا لا تشترى بالمال. وهناك جانب سلبي خطير يؤثر بطريقة غير مباشرة على بعض الأثرياء، حيث يتسربل الأشخاص المسرفون في هذه الحياة المادية صفات غير مرغوبة، كحب الذات والظلم، وفي أغلب الأحيان وبسبب وتيرة الحياة المتسارعة من حولهم، لا ينتبهون إلى أنهم يحملون هذه الصفات التي تصبح بعد حين جزءاً من شخصياتهم المتناقضة. لذلك نجد أن البعض يلجأ إلى الأعمال الخيرية، كباب خلفي يدخلهم مرة ثانية إلى حياة أكثر اطمئنانا وسلاما وأقل تعقيدا وتناقضا.

الإنسان بشقاء ينسى نفسه أو يتناسى، في خضم حياة مادية لا ترحم، يكون الوقت احد أهم علاماتها، يمضي بنا القطار مسرعا في رحلة الحياة، ويعبر محطات مهمة في حياتنا لا نقدر أن نتوقف عندها من فرط مشاغلنا، لكنا ندفع ثمنها غاليا عندما ينتهي الوقت ويتوقف القطار في المحطة الأخيرة. البعض يقضي أغلب حياته ليحقق أهدافه ولو كان على حساب نفسه أو الآخرين، ويقضي الكثير من عمره يحاول أن يكون ثريا وناجحا بطرق متعددة وغير صحيحة، وعندما يحقق طموحه يكون قد أصبح جزءا من منظومة أكبر لا يستطيع أن يخرج منها، عندها يملكه الوقت ويقضي بقية عمره جاهدا ليخرج من هذه المنظومة.

لكل شيء نهاية، وعدم معرفة النهاية يبقى هاجسا بشريا قديما ومعقدا في نفس الوقت، يتفاقم مع الانغماس في الحياة المادية البحتة وتظهر بوادره مع مضي الوقت، عندها يبدأ ناقوس الفزع من النهاية يدق وبشدة، قد شارف القطار على الوصول الآن، تستيقظ فجأة لتجد أن كل ما تبقى من الثروة مصنوع من ورق. أو كما يقول نزار قباني في إحدى قصائده: وستعرف بعد رحيل العمر أنك كنت تطارد خيط دخان..

خاص لـ ( الهتلان بوست )