د.جلال أمين
د.جلال أمين
عالم اقتصاد وأكاديمي وكاتب مصري

هل انتهى «عصر النهضة»؟

آراء

المقارنة بين ما يكتبه كتابنا الكبار اليوم، وما ينشر في وسائل الإعلام، وما كان يكتب وينشر منذ مائة عام، تثير الكثير من الأفكار والأسئلة عما حدث للمجتمع خلال هذه الفترة، فأدى إلى هذه الفوارق الشاسعة.

إني لا أقصد لغة الكتابة (وإن كان هذا يلفت النظر أيضا)، بل مضمونها. وأقصد على الأخص موضوعاً بذاته كان دائم التردد على أقلام كتابنا وألسنتهم، ولا تكاد تجده فيما يكتب وينشر اليوم. أقصد موضوع «النهضة» وما نحتاجه حتى نلحق بالأمم الأكثر تقدماً في مضمار الحضارة.

هل يمكن حقاً أن يكون موضوع «النهضة» قد اختفى من جدول أعمالنا، لعلنا نعبر الآن عن الهدف نفسه ولكن بتعبيرات مختلفة؟ قبل منتصف القرن الماضي لم يكن شعار «التنمية الاقتصادية» شعاراً مالوفاً، ولا تعبيرات مثل «الدولة المتخلفة اقتصادياً»، ولكن سرعان ما انتشر التعبيران ومرادفاتهما، واعتبرت التنمية الاقتصادية هي الهدف الأسمى أو الأكثر إلحاحاً للدول التي أطلق عليها اسم «العالم الثالث».

احتل هدف التنمية الاقتصادية بسرعة مكانة هدف النهضة، ولم تذرف أي دموع على هذا الاستبدال، مع أنه كان ينطوي في الحقيقة على تغير خطير في طموحات هذه الدول وفى سياسات حكوماتها.

من الشيق أن نحاول تفسير هذا التحول، من شعار أو هدف النهضة إلى شعار وهدف التنمية الاقتصادية. هناك عدة تفسيرات ممكنة. كان شعار النهضة شائعاً طوال عصر الاحتلال الأجنبي، وكثيراً ما كان المقصود بالنهضة ما يمكن لهذه الدول أن تحققه متى نجحت في التخلص من الاحتلال.

لقد بدا الاحتلال، في نظر شعوب هذه الدول، وكأنه العقبة الأساسية (بل وربما الوحيدة)، وأنه بمجرد التخلص منه يمكن تحقيق التقدم أو النهضة في مختلف جوانب الحياة، الديمقراطية في السياسة، والتصنيع في الاقتصاد..الخ كانت كلمة «النهضة» تعبيراً ملائماً عن كل هذه الآمال، فلما تحقق الجلاء ونوع أو آخر من الاستقلال السياسي والتقدم الاقتصادي وكأنه الهدف الذي يستحق أكبر قدر من الاهتمام ومن ثم أصبحت «التنمية الاقتصادية» في مقدمة ما كان يعلنه الحكام الجدد (وكثير ما كانوا من قادة الانقلابات العسكرية) كأهداف للمرحلة الجديدة.

ولكن يلاحظ أيضا أنه مع انتصاف القرن العشرين كانت الحرب الباردة قد بدأت تشتد بين المعسكر الرأسمالي والاشتراكي، وقد اتخذت شكل الحرب الدعائية من ناحية، والتنافس في تقديم المعونات الاقتصادية لدول العالم الثالث، من ناحية أخرى.

فجأة أصبحت «المعونات الاقتصادية» موضوعاً شائعاً في وسائل الإعلام، وكانت المعونات تستهدف التنمية الاقتصادية ومن ثم شاع الحديث عن التنمية أيضا.

لا بد أن نلاحظ بالإضافة إلى ذلك تحولا مهماً في السياسة وفي اهتمامات الرأي العام منذ انتصاف القرن العشرين، ويمكن القول بأنه منذ ذلك الوقت بزغ عصر جديد يمكن وصفه «بعصر الاقتصاد»؟ إن الأمر لا يقتصر على التحول المفهوم تماماً في أولويات الدول حديثة الاستقلال، إذ تقفز التنمية الاقتصادية مباشرة إلى قمة الأولويات بمجرد تحقيق الاستقلال، بل يمكن أن نلاحظ أيضا على الدول الأكثر ثراء والمسماة بالدول المتقدمة.

لقد شاع في خمسينيات القرن العشرين القول «بانتهاء عصر الأيديولوجيات»، وكان هذا القول يعبر عن تحول حقيقي على أرض الواقع، الخلاف بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي بدأ يظهر أنه في الحقيقة خلاف اقتصادي، أي محاولة من جانب الدول الاشتراكية (الأقل تقدماً اقتصادياً وتكنولوجياً) للحاق بمستوى المعيشة الذي حققه الغرب.

في ذلك الوقت ظهرت المقولة الشهيرة للمفكر الفرنسي «ريمون آرون»، بأن المعسكرين أخذا في التقارب، أحدهما من الآخر، بسبب عوامل اقتصادية، وأن التقارب الاقتصادي إذا وصل إلى حد معين لابد أن يقترن بتقارب سياسي وأيديولوجي، بل ربما وصل التقارب إلى درجة تزول معها الخلافات الأيديولوجية.

مع حلول الستينيات وظهور ما سمي «بالوفاق بين المعسكرين» في أواخر ذلك العقد ظهر أن الكلام عن انتهاء عصر الايديولوجيات في محله، ورأينا تقارباً مماثلا بين الأطراف المتنازعة داخل العالم الثالث أيضا. إذ كيف يستمر الأتباع والأنصار في النزاع وهم يرون توافقاً وتقارباً بين المتنازعين الرئيسيين؟

في مثل هذا المناخ السائد اليوم، كيف نتوقع أن يظل لشعار «النهضة» السحر القديم؟ إن عصر «التنمية الاقتصادية» يلائمه كلام عن معدلات النمو الناتج القومي الاجمالي ومعدلات الاستثمار، إن عصر «التنمية الاقتصادية» يلائمه كلام عن معدلات النمو في الناتج القومي الاجمالي ومعدلات الاستثمار، أما عصر «النهضة» فقد تلائمه اهتمامات أخرى أكثر شمولاً، وربما قال البعض أيضا أنها كانت «أكثر نبلاً».

المصدر: البيان