«وثائق بنما»

آراء

قرأت مرة لنجيب محفوظ قصة شاب كان يعيش في إحدى حواري القاهرة، وفي أحد الأيام تحصل على منظار، وقرر استخدام المنظار في مراقبة سكان البنايات من حوله، ثم تبدأ القصة في سرد ما يحصل في كل بيت بالتفاصيل، وتتتابع الأحداث، حتى تظن أن الهدف من هذه القصة هو سرد المشكلات الاجتماعية والسلوكية التي يمر بها المجتمع المصري، ثم تُفاجأ بأن العمر يمضي بهذا الشاب حتى أمسى كهلاً، ولينقضي عمره خسارة، لقد كان هو نفسه المشكلة، أما سكان البيانات الأخرى، فرغم مشكلاتهم، فقد عاشوا الحياة واستمتعوا بها.

توضح تلك القصة أن التلصص على الناس ظاهرة مرضية تقضي على صاحبها، حيث تجد المريض بهذا الداء متعطشاً لمعرفة خصوصيات الآخرين، ومراقبة ردات فعلهم، ليقارنهم مع نفسه، ويتخيّل نفسه في موقعهم. ذكّرتني تلك الرواية بفترات مراهقتنا الأولى، التي كنا نتسكع فيها بمعارض الكتب لنبحث عن العنوان المثير، مثل أسرار الماسونية العالمية، وخفايا الموساد، والعلاقات الغرامية للزعيم النازي أدلوف هتلر، وكنا كذلك نتسابق في شراء المجلات التي تحمل صوراً مثيرة، وعناوين مثل فضائح الفنانات، أو المغامرات السرية للاعب المشهور، مضى العمر في قراءة تلك الترهات ومتابعتها، ولم نندم إلا بعد أن أدركنا أننا أضعنا الكثير من الوقت في تتبع الترهات والأكاذيب، وأكثر كلمة أسمعها اليوم من زملائي القراء هي: كن نخبوياً في قراءاتك.

حالة الفضول المرضية ليست بالغريبة علينا، نراها بوضوح في شوارعنا ــ للأسف ــ فحادث مروري بسيط على الشارع الآخر يسبب ازدحاماً في الشارع الذي نسير فيه، والسبب هم الفضوليون الذين يخففون من سرعتهم لمعرفة ما الذي يجري هناك! والنتيجة أن أوقات الآخرين تضيع من أجل إشباع فضول سقيم.

ظهرت بالأمس ما يسمى «وثائق بنما»، التي تتحدث هي الأخرى عن أسرار تتعلق بشركات وهمية، وكما جرت العادة تداولت المواقع الإعلامية على الإنترنت عناوين مثيرة، مثل تسريبات جديدة، والجهة المصدّرة لهذه الوثائق تدعي بأنها تفضح السلوكيات الخاطئة، حجم الوثائق بالملايين يجعلنا نتساءل: هل نشر هذه الوثائق ممارسة أخلاقية جديرة بالاحترام؟ ألسنا نحن كأفراد من يحارب ويرفض جرائم الابتزاز الإلكتروني التي تهدد بنشر خصوصيات الناس؟ ثم إن كانت تلك الجماعات تهتم لأمر الناس في الشرق الأوسط فلماذا لا تنشر التراكيب الكيماوية للأدوية الجديدة، لتتمكن مصانع الأدوية في المنطقة من صناعتها وبيعها بأسعار زهيدة للمرضى المعوزين؟ حقيقة الأمر كله لا تتعدى إثارة للرأي العام، بهدف نشر الفوضى، وشغل عقول الناس بالتفاهات.

أخيراً، الحياة هي ملك خاص لنا، كل أيامها وساعاتها ودقائقها ثمينة، ويجدر بنا بدل البحث في قضايا الآخرين أن نقف أمام المرآة ونسأل عن تقصيرنا تجاه أنفسنا وأهلنا ووطننا، وفي كل الأحوال سنجد أنفسنا مقصرين، وأن الوقت الذي بقي بالكاد يكفي لنقدم القليل.

المصدر: صحيفة الإمارات اليوم