محمد شحرور
محمد شحرور
مفكر إسلامي

ولد الهدى فالكائنات ضياء

آراء

خاص لـ هات بوست :

ولد الهدى فالكائنات ضياء، لم يبتعد أمير الشعراء عن الحقيقة كثيراً، إذ ربما لم يأت الهدى إلينا بشكل دقيق مع ولادة محمد رسول الله (ص)، لكنه جاء مع بعثته، فالقرآن هدى للناس جميعاً، بلغه لنا نبينا الكريم، بما فيه من بينات تصدق على الرسالة التي حملها التنزيل الحكيم، وإذا كنا لسنا متفقين على صحة التقويم الهجري المعتمد، ولا متأكدين من تاريخ ولادة الرسول تماماً، لكن ما نعرفه أن محمد (ص) أحدث قفزة نوعية في خط سير التاريخ، لا يمكن تجاهلها.

فالرسول الكريم بلّغ الرسالة كما وصلته، بكل أمانة، وفرض على أتباعه الشعائر التي تقربهم إلى الله تعالى، وشرّع لمجتمعه كتطبيق أول للرسالة مع الواقع، وهنا كانت القفزة النوعية، إذ وضع أسساً لم تصلها الإنسانية إلا بعد مئات السنين، وأولها المساواة، فالناس جميعاً سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، وهذه التقوى تنعكس في العمل الصالح، وبالتالي فإن المجتمع يحوي كل الملل والإثنيات والقوميات تحت مظلة واحدة تلخصها {لا إله إلا الله} فلا واحد إلا هو، وكل ما عداه متعدد مختلف، والناس أحرار فلا إكراه في الدين، ولا عبودية لأحد، فالخلق كلهم عباد الله، والعبادية تختلف عن العبودية، ومن ثم تم إلغاء الرق عن طريق تجفيف منابعه وتصريف الموجود، وتقديم البديل عبر نظام العقود بالتراضي والمعمول به حالياً في كل نواحي الحياة، أما المرأة فمساوية للرجل، ويمكنها أن تكون القيّمة على الأسرة في حال كفاءتها، وترث الأنثى مثل الذكر في أغلب الأحيان بعد أن كانت تحرم من الميراث، ولها حق الطلاق كما له تماماً، أما سياسياً فللمرأة حق الانتخاب كالرجل، والرسول بايع النسوة، ومنحهن حقوقهن.

ووفق هذه الأسس أنشأ الرسول دولته في المدينة، دولة مدنية تعددية تقبل الآخر، وتقوم علاقتها مع جيرانها على السلم، إلا في حال الاضطرار فيبقى القتال خيار أخير، ونفذه محمد النبي كقائد عسكري بما يتماشى مع منطق الأمور في ذاك الوقت.

أما الهدى الذي حمله النبي في القرآن، فهو معجزته الخالدة، تجلت عبر ومضات لم تأول في حينها، لكن تأويلها يظهر تدريجياً حتى قيام الساعة مع تقدم الإنسانية بالعلوم والمعارف، لتثبت صدقية الرسالة التي جاءت معها، وكأنها بمثابة الختم الذي يحمل توقيع خالق هذا الكون، لكن أمة محمد للأسف اتخذت “هذا القرآن مهجورا” وتركت “الكافرين” يدرسون ويتدبرون ويسبرون من خلال جامعاتهم ومخابر أبحاثهم، بينما نحن نيام، نصلي على النبي بتمتمات، ولا نتواصل مع نبوته، بل نروج لقصص لا أساس لها تسيء له أكثر مما تجله، ونختلق صفات بعيدة عن الحقيقة ولا يقبلها العقل ولا ترفع من قدره، فالرسول وفق الموروث لم يكن له ظل لأن نوره أقوى من نور الشمس، وكان الطعام يسبح بين يديه من الفرح لأنه سيأكل منه، وتصدع إيوان كسرى لمولده وهوت الأصنام على وجوهها، فلعمري لماذا لم يؤمن به أهل مكة وهم يرون كل هذا؟

ونحن العرب مدينون للرسول الكريم بلغتنا، فالرسول (ص) تلقى التنزيل الحكيم من الوحي، وأعاد نطقه كما سمعه، والتنزيل أعلى مستوى بلاغة في اللغة العربية حيث لا ترادف فيه لا حشو، والبلاغة فيه من عند الله، حيث القول بليغ والقائل هو الله، إلا أن الفصاحة في النطق، والناطق هو رسول الله، وبنطقه وضع مقياس الفصاحة للغة العربية، بدليل أن اللهجات التي كانت سائدة في عصر البعثة انقرضت، في حين بقيت العربية الفصحى تجمع العرب.

وجميل أن نعتمد يوماً للاحتفال بذكرى مولد الرسول، ونجعل منه عيداً اجتماعياً، وأن نواكب هذا بالاعتراف بأننا مدينون لرسولنا بالكثير، وأن علينا التحلي بخلقه والصلة مع نبوته وتبجيلها ورفع مقامها، قولاً وفعلاً، فصلى الله عليك يا سيدي رسول الله، وسلامنا وصلاتنا عليك، على أمل أن نسعى للعمل برسالتك في الرحمة والأخلاق الحسنة لكل سكان هذا العالم، والعمل لتحقيق نبوتك بما يخدم الإنسانية ويساهم في تطورها إلى الأمام، لنكون في الدنيا شهداء ننشر الضياء، وفي العالم الآخر مع الصديقين والأنبياء.