علي عبيد
علي عبيد
كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة

وللكلمة شهداء أيضاً

آراء

ليس الأحياء وحدهم من يحق لهم الوقوف على منصات التكريم، فثمة غائبون عن الحياة، لكنهم أحياء عند ربهم يُرزَقون، يشاركون الأحياء، وإلى المنصات يصعدون، لينالوا من التكريم ما يستحقون.

من هؤلاء كانت فاطمة غولام، التي تألقت في حفل «تحدي القراءة العربي» الثاني، الذي أقيم على مسرح «أوبرا دبي» الأسبوع الماضي، وسجلت حضوراً قوياً في قلوب من شهد الحفل، والذين تابعوه على شاشات التلفاز في كل أنحاء العالم العربي، رغم أنها غائبة عن الحياة، فنالت التكريم الذي تستحقه من مطلق المشروع وراعي الحفل؛ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، ومن كل الذين عرفوها، واستمعنا إلى شهاداتهم في التقرير التلفزيوني الذي عُرض أثناء الحفل، والذين لم يعرفوها، لكنهم عرفوا حكايتها، وتأثروا بها كما لم يتأثروا بحكاية أخرى.

حكاية فاطمة غولام، التي انتقلت إلى بارئها عن 17 عاماً، تستحق أن تُروى، ليتخذ أبناؤنا منها مثلاً وقدوة، وليعرفوا أن للقراءة والكلمة ثمناً، وأن هذا الثمن يجب أن يُدفع حتى لو كان غالياً، ففاطمة فتاة جزائرية من أسرة متواضعة، تقطن في منطقة قصر أولاد وشن من ولاية أدرار التابعة إقليمياً لولاية توات؛ منطقة لم نكن لنسمع عنها لولا ولع فاطمة بالقراءة، وإصرارها على التفوق فيها، مثلما هي متفوقة في الدراسة، بشهادة معلميها وزميلاتها اللواتي استمعنا إليهن في التقرير التلفزيوني.

لذلك أصرت فاطمة على المشاركة في «تحدي القراءة العربي» الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم قبل عامين، رغم أنها تقيم في منطقة تبعد عن العاصمة الجزائرية 1500 كيلومتر، تقطعها في 18 ساعة بالسيارة، بعد أن اجتازت تصفيات منطقتها بتفوق، وبقي أن تشارك في التصفيات النهائية، لتكون محطتها الأخيرة دبي، لتكرر الإنجاز الذي حققه مواطنها الجزائري محمد عبدالله فرح، ذو السنوات الست، العام الماضي.

لم يُكتَب لفاطمة أن تكمل رحلة تفوقها على الأرض، فقد شاء القدر أن تنتقل إلى السماء في حادث مروري أليم، وهي في طريقها إلى العاصمة الجزائرية سعياً وراء تحقيق حلمها بالوصول إلى دبي، لتمثيل بلدها في هذه المسابقة التي استقطبت اهتمام الجميع في البلدان العربية وخارجها، وبلغ عدد المشاركين فيها هذا العام أكثر من 7 ملايين و400 ألف مشارك، محققين بذلك أمنية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، مطلق التحدي، في نهاية الدورة الأولى، الذي تمنى أن يصل عدد المشاركين في الدورة الثانية 7 ملايين مشارك، مقابل 3 ملايين و500 ألف شاركوا في الدورة الأولى.

ورغم أن أمنية فاطمة لم تتحقق لها على الأرض كما تمنت، فلم تصل إلى دبي التي حلمت بها، إلا أن صاحب المشروع حقق لها هذه الأمنية، فكرمها هي وأسرتها في احتفال الدورة الثانية، الذي أقيم الأسبوع الماضي، وكان مشهد التكريم لافتاً ومؤثراً، إلى الدرجة التي جعلت قلوب جميع الحضور تخفق حباً لفاطمة، وجعلت دموع بعضهم تطفر تأثرا بالموقف، وتقديراً للتضحية التي قدمتها فاطمة، بإصرارها على قطع كل هذه المسافة بين المنطقة التي تقيم فيها والعاصمة الجزائرية، لتحقيق حلمها بالوقوف على منصة التكريم في هذا اليوم المشهود، الذي ينتظره كل الطلبة العرب في جميع أنحاء العالم، ويتمنى كل الآباء والأمهات أن يروا أبناءهم وبناتهم مكرمين على منصة التتويج فيه.

«كما أن للكلمة قراء.. فإن لها شهداء». بهذه الكلمات ختم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم تعزيته لذوي الطالبة فاطمة عند سماع سموه خبر وفاتها، وتوجه بخالص مواساته لأهلها وذويها والشعب الجزائري، ووجه سموه بتجهيز 10 مكتبات تحمل اسمها، بعد أن ضربت مثالاً طيباً في السعي والإصرار من أجل المعرفة والقراءة.

أما فاطمة فقد كانت آخر كلماتها قبل أن تفارق الحياة، كما دونتها بخط يدها في مفكرتها وهي في طريقها إلى العاصمة لتحقيق أمنيتها: «أريد أن أتفوق من أجل نفسي، لأن المتفوق يصل بسرعة إلى ما يريد.. من أجل أمي وأبي، لأن نجاحي سبب شعورهما بالسعادة.. من أجل مجتمعي، لأن المجتمع يحتاج إلى المتفوقين والناجحين.. من أجل المسلمين لأنهم يحتاجون اليوم بشدة إلى متفوقين».

فاستحقت بهذا أن تكون شهيدة الكلمة عن جدارة، وأن تصبح نموذجاً وقدوة لجميع أبنائنا، خاصة أولئك الذين تتوفر لهم كل الوسائل للقراءة والنهل من معين المعرفة، في هذا العصر الذي أصبحت فيه المعرفة في متناول الجميع، خاصة في البلدان التي لم يعد القاطنون فيها يعانون مثلما عانت فاطمة كي تحقق حلمها الذي اكتمل، رغم مفارقتها دنيانا.

عندما يتحدث الجميع عن تراجع مكانة الكتاب، وإحجام الجيل الناشئ عن القراءة، ينظرون إلى البقع المظلمة من الصورة، لكن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لا يرى إلا البقع المضيئة منها، ويفكر كيف يزيد من مساحة هذه البقع حتى تختفي البقع المظلمة تماماً.

وهذا هو ما فعله سموه عندما أطلق مشروع «تحدي القراءة العربي»، فلم ينظر إلى البقع المظلمة من الصورة، وإنما نظر إلى البقع المضيئة منها، ليثبت مشروع «تحدي القراءة العربي» أنه أنجح مشروع لاستنهاض همم جيل ناشئ يتطلع إلى مستقبل واعد، وليس ثمة من هو أقدر على رسم خطوط هذا المستقبل من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد.

المصدر: البيان