علي عبيد
علي عبيد
كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة

يكبُر الطفل ويتحقق الحلم

آراء

يذهب كل صباح إلى مدرسته، يلعب قليلاً مع أقرانه بانتظار جرس المدرسة، يُقرع الجرس فيقف في طابور الصباح. لم يكن يومها ثمة علم يقف هو وزملاؤه لتحيته، ولم يكن ثمة سلام وطني، ولا نشيد يرددونه كل صباح. يذهب بعد الطابور إلى صفه ليجلس خلف طاولته، يخرج كتبه ودفاتره.

على الدفاتر صورة لأمير الكويت الراحل، الشيخ عبدالله السالم الصباح، رحمه الله، وعلى الكتب شعار دولة الكويت وعلمها. يسأل عن معنى دولة وشعار وعلم. لم يكن وقتها يعرف معنى أن يكون للإنسان دولة وشعار وعلم، فقد كانت هذه الأشياء على وشك أن تتخلق في عقله، بينما كان ثمة دولة تتخلق على الأرض التي كان يعيش عليها.

كان يسمع والده ورفاقه، وهم خارجون من المسجد في أعقاب كل صلاة، يتحدثون عن شيخ تولى الحكم حديثاً في إمارة أبوظبي المجاورة لإمارته دبي. وكان السفر إلى أبوظبي وقتها يستغرق أكثر من نصف يوم، عبر الرمال التي لا تقطعها سوى السيارات ذات الدفع الرباعي، حيث لم تكن ثمة طرق مرصوفة ولا شوارع ممهدة.

كان الناس يتحدثون عن هذا الشيخ الكريم بحب وشغف، وكانوا يقولون إنه يسعى لتأسيس دولة من الإمارات المتناثرة على ضفاف الخليج العربي وبحر عمان، تلك التي تجمع بين سكانها أواصر دم وقربى، وتوشك أن تخرج من مرحلة الاحتلال البريطاني لأراضيها.

يحاول الطفل الصغير أن يشبع فضوله الذي بدأ يتنامى، فيسأل والده عن هذا الشيخ الكريم الذي وصل صيته كل مكان، فيقول له إنه الشيخ زايد، الذي ينتظر الناس على يده الخير الكثير، وسيصبح لهذه البقعة من الأرض بفضله شأن كبير.

تمر الأيام والطفل الصغير يذهب كل صباح إلى مدرسته، ويعود منها محملاً بالكثير من الأسئلة، بينما أحاديث الكبار حوله تتشعب. حتى النساء اللواتي لم يكنّ يشاطرن الرجال أحاديثهم عادة، بدأن يتحدثن عن حاكم أبوظبي الشيخ زايد، والجهود التي يبذلها مع حاكم دبي الشيخ راشد، لتوحيد إمارات المنطقة.

يسمع أن زايد وراشد قد اجتمعا في منطقة بين أبوظبي ودبي، ووقّعا اتفاقاً لإقامة «اتحاد» بين الإماراتين، وقاما بتوجيه الدعوة للإمارات الأخرى كي تنضم إليهما، فيسأل عن معنى كلمة «اتحاد».

يتمنى لو كان أكبر قليلاً كي يشارك والده ورفاقه أحاديثهم، أو أصغر قليلاً كي تأخذه والدته معها حيث تجتمع النساء في «الرايح» ضحى لتبادل الأحاديث. كان أصغر من أن يشارك في أحاديث الرجال، وكان أكبر من أن يسمح لنفسه باستراق السمع من مجالس النساء.

بين الدراسة واللعب كان ذلك الطفل يقضي أوقاته، وكان في الوقت ذاته يتابع ما يصل إلى أذنيه من أحاديث الكبار عما كان يجري.

يسمع أن هناك جهوداً تُبذل من أجل إقامة اتحاد يجمع إمارات الخليج التسع التي لم تكن قد استقلت بعد، ويسمع أن ثمة وجهات نظر لبعض هذه الإمارات قد تحول دون تحقيق الاتحاد التساعي، رغم المحاولات التي تبذلها المملكة العربية السعودية ودولة الكويت وبريطانيا لتقريب وجهات النظر.

تعلن البحرين استقلالها في الرابع عشر من شهر أغسطس عام 1971 فيتسلل القلق إلى قلب الطفل الصغير، وتتبعها قطر في الأول من شهر سبتمبر من العام نفسه، فتزداد مخاوفه، ويكبر قلقه، على الاتحاد الذي كان يرصد إرهاصاته، مثل الكبار تماماً.

كان يخشى أن لا يتحقق حلمه بأن تكون له دولة وشعار وعلم، مثل تلك التي كان يراها على أغلفة الدفاتر والكتب التي كان يدرس منها وفق مناهج تعليم الكويت، التي كانت قد استقلت عام 1961، وأصبح لها علم وشعار وسلام وطني، ونشيد يردده طلابها كل صباح في مدارسهم.

كانت الفكرة التي تشغل بال ذلك الطفل الصغير هي الهاجس نفسه الذي يحتل عقول حكام الإمارات السبع، الذين لم تفتر همتهم، ولم يلن عزمهم، ولم يتراجعوا عن المضي في طريق تحقيق الحلم لشعوبهم، حتى بعد أن قررت البحرين وقطر اتخاذ مساريهما الخاصين.

فأعلنوا عن نيتهم تأسيس الاتحاد، ومضوا يضعون له الأطر القانونية والإدارية، حتى أشرقت شمس الثاني من ديسمبر 1971 حاملة معها الخبر اليقين، الذي ملأ قلب ذلك الطفل فرحاً، وبدد مخاوفه، فقد أصبح له دولة وعلم وسلام وطني، تماماً مثلماً كان يتمنى ويحلم.

يكبر الطفل ويكمل تعليمه في ظل دولة الاتحاد، ثم تبتعثه الدولة لإكمال دراسته الجامعية في الخارج، ويعود إلى وطنه، ليأخذ دوره في بناء دولة الإمارات العربية المتحدة.

وعبر مراحل العمر المختلفة التي تلت ذلك، يشاهد بناة الاتحاد عن قرب في مناسبات كثيرة، ويسافر بحكم عمله مع مؤسس الاتحاد، الشيخ زايد، رحمه الله، وهو يجوب العالم من مشرقه إلى مغربه، ناشراً فكرة الوحدة التي تسري في دمه وعقله وكيانه، باذلاً جهده للمِّ شمل الأمة العربية، مطفئاً النيران التي كانت تشتعل في أنحاء الوطن العربي، باذلاً الغالي والنفيس من أجل تحقيق ما آمن به طوال حياته، وهو أن يرى البشر جميعاً أسرة واحدة، تعمل من أجل خير الإنسانية ورخائها.

واليوم، بعد أن كبر ذلك الطفل وتحقق حلمه، يجلس مع أبنائه ليحدثهم عن قصة الاتحاد التي عايشها بكل كيانه، ولا ينسى أن يذكّرهم بأن هذه الدولة قد قامت بتضحيات أولئك الرجال وعزمهم وتصميمهم، وعليهم أن يحافظوا عليها، ويرخصوا من أجلها أموالهم ودماءهم وأرواحهم.

المصدر: البيان