تعثر البشرية أمرٌ بديهي، والإخفاقات جزء لا يمكن الفكاك منه من حياة الأفراد والمجتمعات، والمجتمع عند حالات التردي إمّا أن يُخفِق من جديد في معرفة أسباب تعثره فيواصل التردي أكثر وأكثر، وإمّا أنْ يملك من الجرأة ما يواجه به نفسه دون «مساحيق تجميلية» ليُنقّب عن جذور أسباب ما وصل إليه فيعالجها لكي يستطيع الوقوف من جديد.
نعرف جميعاً أنّ الدول العربية ما زالت تحاول أن تتلمّس طريق دول النخبة، وهذه المحاولات تختلف جودة وكثافة واستمرارية من دولة إلى أخرى، فبعضها بدأ فعلاً تقريب المسافة بينه وبين الكبار، والبعض ما زال يترنّح في محاولات يبدو عليها الارتجال والمحاكاة فتخفق كثيراً لعدم وجود رؤية واضحة، والبعض الآخر ارتضى حالة الموات وأن تسحبه الدنيا كما تشاء، فالمهم أن يعيش بأي طريقة!
نملك ولله الحمد في بلادنا الكثير من أصحاب الفكر الخلّاق والنظرة بعيدة المدى والعقل المتزن، فبهم وأمثالهم تراهن البلاد وتستطيع أن تمضي بخُطى ثابتة من أجل غَدٍ أفضل، ولن تتوازن خطوات دون أن تكون نابعة من جذور هويتها الأصيلة، فكل من تنكّر لهويته خذلته الأيام وجرفته الهويّات الأخرى إلى هاويتها!
رغم توفر الأكفاء إلا أنّ لدينا أيضاً مجموعة من محبي العراك ومختلقي الصراعات لمآرب كثيرة، ويزيد بالمرء الاستغراب كلما نظر إلى خروجهم المفاجئ لإثارة ذات القضايا بنفس الأسلوب كلما هدأت الأمور، وبالطبع فهؤلاء لا يثير حفيظتهم إلا الإسلام، فالحديث النبوي تختنق به صدورهم، وأحكام الشرع خاصة فيما يحفظ كرامة الأنثى يُجنُّ به جنونهم، ولو سألتَ أحدهم عن سبب تخلّف العرب عن ركب التقنية الحديثة لقال بأن السبب الأوحد هو صحيح البخاري وربما أخذهم الحماس ليفعلوا ما فعله بعض حمقى بني العباس عندما أخرجوا جثث أمراء بني أمية من قبورها ليجلدوها!
إنّ الصين تتقدّم بسرعة جنونية ومازالت وفية لعقيدتها البوذية ولم نسمع صراخاً ينادي بالتخلّص منها بادّعاء أنها تعوق التقدّم، والغرب ما زال وفياً لكاثوليكيته رغم ادّعائه العلمانية ولم نسمع كاتباً هناك يتهم أسفار العهد الجديد بأنها قوّضت تفوقهم الحضاري، فمنذ أنْ أوقفوا تسلط الكهنة على المشهد العام ومحاربتهم للعلم، لم يُنظَر للكنيسة والأديرة إلا كرموز تمثل البعد الروحاني لتلك الأمم لا يجوز المساس به أو التشغيب عليه!
في الطرف الآخر حيث العالم الإسلامي، كان هذا الدين أكبر دافع للعلم وأول آمر بالبحث وأقوى محفز للتفكر في آيات الله وإعمار الأرض والإحسان للناس، وفي غضون سنواتٍ قلائل كان هذا الدين يجتاح الدنيا بسماحته ويشعل منارات العلم هنا وهناك، فخرجت الألوف المؤلفة من العلماء في كافة المجالات، في العقيدة والتفسير والحديث والفقه والفلك والتاريخ والجغرافيا والبصريات والطب والكحالة والفلاحة والفلسفة والتقنية، من فرغانة وسمرقند شرقاً وحتى طليطلة غرباً دون استثناء لبلد، حتى لا يقول مُشغِّب إنّ ذاك كان مختصاً ببلدٍ معين أو مقصوراً على فترة محددة.
عندما سقطت غرناطة كآخر «قمرٍ» مكتمل لحضارة الإسلام واجتاحت جحافل همج أوروبا العالَم كله، وتنكّرت دولة بني عثمان المحارِبة، للعلم والفكر الذي كان يميّز الحضارة العربية المسلمة، بدأ الانهيار التدريجي حتى آل الأمر إلى أن أصبح العرب دولاً تبحث عن الحرية من استرقاق المستعمر بعد أن كانوا سادة الدنيا علماً وقادتها سياسة.
ولمّا تحرّروا، أصبح من المفترض استعادة تلك القاطرة التي بإمكانها تسريع حركتهم على مسار المدنية المعاصرة، وذلك يتأتى بمعرفة الخطأ المرحلي الذي حدث بعد سقوط غرناطة وتسبّب في توسعة الشُقّة بيننا وبين العالم المتقدِّم، والخطأ ليس لُغزاً محيراً، بل كان الانكفاء على النفس ومحاربة الجديد من العلم والمخترعات ودفع الطُرُق الصوفية لتمثّل الحضور الروحي للإسلام وهو ما دعمه العثمانيون بشدة، كان ذلك هو الإسفين الذي دُقّ في نعش الحضارة الإسلامية.
والتصحيح بعد معرفة السبب لا يبدو صعباً، لكن البعض يُصاب بضبابية غريبة، فتجده يجعل السنة المشرّفة هي الشماعة وصحيح البخاري هو كبش الفداء الذي لا بد من التخلّص منه لاستعادة دورنا الريادي، متجاهلاً أنّ السنة كانت الركن الركين بعد القرآن الكريم في حضور هذه الأمة وريادتها للعالم قروناً عديدة، وما قد كان سبباً للتقدّم لا يمكن أن يتحول لسببٍ للتأخر إلا عند الأفهام القاصرة، هي معركة الحق والباطل وإنْ اختلفت المسميات، فاختر لنفسك الصفّ الذي تريد!
المصدر: البيان