كاتب وسياسي يمني عمل سفيراً لليمن في عدة عواصم كان آخرها مدريد
تثير الأوضاع التي يشهدها العراق رعبا حقيقيا لدى الكثير ممن يدركون تبعات التطورات الدراماتيكية التي حدثت خلال الأسابيع الماضية، وصار من الواضح أن ما يحدث ستكون آثاره مدمرة على البنى الاجتماعية والجيوسياسية ليس في العراق فحسب، ولكنها ستمتد حتما إلى أرجاء كثيرة من دول المنطقة ولعل أهمها على الإطلاق هو سقوط النظرية التي كانت ترددها أجهزة الإعلام عن صلابة المجتمعات العربية وانسجام مكوناتها ومناعتها ضد التفكك والتطرف والتشرذم.
عندما أطلق العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين تحذيره عن تشكل الهلال الشيعي فإنه لم يكن يتحدث عن فرز مذهبي داخل المجتمعات التي عاشت فيها الطوائف قرونا طويلة في أمان وانسجام ولكنه كان مدركا للفرز السياسي على أساس مذهبي يتجاوز الحدود الجغرافية لأقطار متجاورة، وهو ما نرى أنه أول عواقب الكارثتين السورية والعراقية، وأصبح جليا ترابط ما يحدث في عاصمتي العباسيين والأمويين ولم يعد ممكنا الحديث عن قطر واحد ولا أمة واحدة ولا رسالة خالدة فقد صارت كلها شعارات من الماضي لا محل لها في ذهن أحد في العاصمتين.
المثير في الأمر أن كلا من الرئيس بشار الأسد ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي انطلقا في معالجتهما لحالة الحنق الاجتماعي الناتج عن التهميش والازدراء المصاحبين لأي نظام قمعي، مستخدمين المزيد من القسوة والتعامل الفظ وغير الحكيم مما أدى إلى تجمع تكتلات متناقضة النشأة ولا يجمعها سوى الغضب من أسلوب إدارة شؤون الحكم، وتشير أغلب التقارير إلى أن الجماعات التي تتحكم في أغلب المدن التي تقطنها أغلبية سنية في العراق لا يجمع بينها سوى رغبة الانتقام ولا تنبع من أرضية فكرية واحدة، ولعل قادم الأيام سيحمل صراعات دموية بينها إذا ما استتبت الأمور لها وسيصير العراق بلدا تفصل بين أبنائه خطوط جغرافية بنكهة مذهبية.
في مقابل المشهدين السوري ثم العراقي اللذين سينتهيان إلى تشكل أقاليم مذهبية، نجد مشهدًا ليبيًا تتصارع فيه القوى على أساس جهوي قد يؤدي إلى تقسيم البلاد تحت مظلة حكم اتحادي في أحسن الأحوال، وقد يعيد هذا استقرارا مؤقتا يساهم في خلق مناخات ثقة ووئام في المستقبل.
المدهش أن كل هذه الأحداث أكدت الغياب العربي الفاضح الذي لم يتمكن من تجاوز إصدار البيانات، وحمل معه الخوف من التحاق أقطار كثيرة بالمسارين العراقي والسوري. وهو ما يستوجب سعيا حقيقيا للبحث عن أنجع السبل لوقف هذا النزيف اليومي والدمار اللاحق بهذين البلدين، وإن الركون على النيات الأميركية أو الاعتقاد بقدرة واشنطن على استعادة الهدوء إلى البلدين، ليس سوى ضرب من الخيال لا يجوز الاعتماد عليه، ومن الغريب أن الجامعة العربية لم تكلف نفسها مشقة الدعوة – ولو من باب رفع الحرج – إلى قمة عربية لتدارس الأوضاع هناك، وأقول تدارس لا التدخل، والتشاور في نتائج الزلزال الذي ستضرب آثاره عواصم قد تتوهم أنها محصنة ضد مخاطر التطرف والطائفية.
ما شاهدناه على الشاشات وقرأناه من تحليلات وتصورات لما يجري وما سيحدث يبرهن على أن الجماعات المتطرفة التي تتحكم في الأوضاع على الأرض لا تنحصر عضويتها على العراقيين والسوريين، بل ربما كانت قياداتها الميدانية من أقطار أخرى، وهنا يحق لنا أن نوجه التساؤل لا السؤال: من المسؤول عن ذهاب أبناء اليمن وتونس والمغرب وغيرها من البلدان للقتال في أرض غير أرضهم؟ ثمة سؤال آخر: أين سيذهب هؤلاء بعد انتهاء مهمتهم هذا إن لم يعودوا في نعوشهم؟
المشترك بين العراق وسوريا هو أن النظام في كليهما كان يزعم أنه يقود نظاما حزبيا، بينما يؤكد الواقع أن الحزب في العاصمتين لم يكن أكثر من واجهة خادعة تخفي سلطة قمعية فردية، وفي الحالة الليبية كمثال آخر للسلطة الثورية، فقد دمر القذافي بنى الدولة كلية وتحول إلى منظر يتصور نفسه إلها لا يجوز حتى التفكير في نزاهة مقاصده وعبقرية عطاءاته الفكرية السمجة التي كانت محل السخرية من كل من سمع بها.
لقد أدى انشغال الحاكم الثوري بتوطيد دعائم حكمه وانزلاقه في هاوية استقطاب الذين يخدرونه بجميل القول وتمجيد كل فعل يأتيه ويتغنون بعبقريته كما كان الشعراء والكتّاب يمجدون كلا من صدام وحافظ ومعمر، إلى تحوله من مسؤول أمام الدستور والمواطنين إلى حاكم فوق القانون والدستور، وتناسى هؤلاء ومنافقوهم الالتفات إلى دروس التاريخ وكيف كانت نهاية كل حاكم تصور أبديته في موقعه.
لعلي أضيف إلى هذا أن الأحزاب التي أتيحت لها فرص الحياة والنمو لقربها من الحاكم تحولت إلى هياكل فارغة تزين جدرانها شخصيات من الماضي يتمسحون بتاريخها لعجزهم عن صنع تاريخ ينسب إليهم وصاروا يتغنون بمآثر الماضي لأنهم غير قادرين على صنع الحاضر وأثبتوا عقمهم عن امتلاك فكر يساهم في صياغة المستقبل وصار حديثها عن اضطهاد الحاكم لها اعترافا بالعجز والفشل عن المقاومة ورأينا كيف تماهت قياداتها في كثير من الأقطار بالحاكم وصارت تسعى لإرضائه وتجنب توجيه أي نقد لتصرفاته، ولقد شاهدت بنفسي كيف عرض زعيم حزب معارض إصبعه وقد تلون بحبر الانتخابات ليبرهن على مشاركته في التصويت ثم أقسم يميناً أن صوته كان لصالح الحاكم حينها.
إن الفراغ السياسي وغياب العمل المجتمعي المنفتح هما البيئة الرخوة لظهور التنظيمات التي تمكنت من فرض رؤيتها المتطرفة على المجتمع، مستغلة انشغال مؤسسات الحكم بتحصين أسوارها مما أتاح للمتطرفين فرصا كثيرة لغرس أفكارهم الشاذة، ولن يكون ممكنا إحداث انتقال إيجابي هادئ دون البحث في جذور المحنة العربية التي تحجب التحول المنشود نحو مستقبل أكثر ازدهارا للأجيال القادمة، والطريق الآمن لن يكون بالإجراءات الأمنية منفردة، ولكن من الضروري أن يتم التركيز على التعليم لا التلقين وإتاحة الفرصة لحوار منفتح ومنطلق بين فئات المجتمع دون تكفير أو اتهامات، لأن ما يجري محصلة طبيعية لتربية النشء على نفي الآخر ورفض فكرة الاختلاف في الرؤى وما نراه في العراق وسوريا وغيرهما هو النتيجة المنطقية لاستحواذ فئة واحدة لمدخلات التعليم فأصبحت مخرجاته جماعات من الذين لا يقبلون التعامل مع مخالفيهم وجرى تلقينهم أنهم أصحاب الحق في فرض أفكارهم الشاذة بالقوة البشعة على معارضيهم،
ولعل المشروع الطموح لتطوير التعليم في السعودية الذي سانده الملك عبد الله بن عبد العزيز يؤسس لخطوة حاسمة تحدث النقلة النوعية في وسائل ومناهج التعليم وأساليب الحوار الإيجابي ويتم استنساخها في الأقطار التي تحتاجها وما أكثرها.
المصدر: الشرق الأوسط