كاتب وسياسي يمني عمل سفيراً لليمن في عدة عواصم كان آخرها مدريد
اختزلت الرسائل المتبادلة بين الرئيس عبد ربه منصور هادي وزعيم حركة (أنصار الله – الحوثيون) السيد عبد الملك الحوثي، عبر الوسطاء أولا ثم عبر الوسائل الإعلامية، حقيقة الأوضاع على الأرض، ولا بد أن الأسابيع القليلة التي تلت سيطرة (أنصار الله – الحوثيون) على مدينة عمران كانت الأقسى في فترة حكم الرئيس، وبرهنت على قصر نظر من تصوروا أن الأحداث التي دارت شمال العاصمة (الاتحادية) وسيلة لاستنزاف الجميع وأنها ستصب في خانة إضعافهم عملا بمقولة (فرق تسد). ومن السذاجة اعتقاد أن هذا الاتهام يمكن توجيهه للرئيس؛ فهو أكثر من تابع هذه السياسة خلال السنوات التي عمل فيها نائبا للرئيس السابق ويدرك كارثية نتائجها، ويجب هنا الاعتراف بأن (أنصار الله – الحوثيون) عملوا بهمة وحسن تخطيط خلال سنوات الاضطراب ونأوا بأنفسهم عن صراعات السلطة، في حين كانت الأطراف الموقعة على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية (التي كانت محددة بمواعيد زمنية لولا فتاوى السيد جمال بنعمر) منشغلة بالصراع على المواقع الحكومية والاقتراب من دفء الرئاسة ومباهجها والسعي لرضاها، وبلغ الأمر حد القبول بالانقلاب على مجمل ما نتج عن لقاءات الموفنبيك قبل التهيئة الجادة، مما حدا بمبعوث الأمم المتحدة السيد جمال بنعمر إلى الاعتراف أخيرا بأن حل المشكلة اليمنية لن يكون إلا يمنيا، بعد أشهر من الإصرار على الانفراد بمنح شهادات التقدير والوطنية لمن استسلموا لرغباته وشطحاته.
استطاع السيد عبد الملك الحوثي فرض نفسه ندا للدولة، ومن غير الحكمة الحديث عن تمرده وخروجه عن الإجماع الوطني، وهي بالمناسبة المفردات نفسها التي استخدمها ضده الإعلام الحزبي المناوئ له والإعلام الحكومي وضد جماعته خلال السنوات الماضية (قبل الربيع وبعده)، كما أن الإسراف في تناول مواقفه من منطلق مذهبي صرف يتناقض تماما مع كل ما دار في المنتجع. ومن المفيد التذكير بأن اللجنة الفنية التي قامت بالإعداد للقاءات الموفنبيك كانت اشترطت البدء بحل القضايا العالقة في الجنوب وفي صعدة، إلا أن اللجنة نفسها تنازلت عما صاغته ووقعت عليه؛ لأن البعض لم يرق له ذلك، واعتقد أن ذلك سيتسبب في تأخير بدء انعقاد الجلسات وفضل التعامل مع القضيتين بعيدا عن الأضواء وعبر صفقات شخصية، فوصلت البلاد إلى هذا المأزق.
كتبت الأسبوع الماضي أن السيد عبد الملك الحوثي لم يهتم كثيرا بمذكرة السفراء العشرة، بل أهملها وسخر منها وكان رده عمليا عبر حشود، تمكن من خلالها إبلاغ رسالته واضحة وإظهار قدراته ووجوده في العاصمة (الاتحادية)، وجاءت مفردات مذكرته إلى الرئيس لتظهر أنه حاليا الطرف الأقوى والأعلى صوتا والأوضح تصورا في المعادلة السياسية اليمنية، وأنهم أكثر حذقا ودهاء، وأن من أخطأوا في قراءتهم الواقع وكانوا مسكونين بوهم القوة انتزع (أنصار الله – الحوثيون) مخالبهم. ومن غير الحصافة السخرية من (أنصار الله) بأنهم يسعون للمشاركة في السلطة كما لو كان ذلك أمرا لا يجوز التفكير فيه ومباحا للانتهازيين فقط من الوافدين الجدد إلى الحكم الذين نعلم تهافتهم على المواقع والمناصب وتشبثهم بها وإصرارهم على تركيبتها الحالية، كما أن سياسة شراء الولاءات قد تكون قادرة على تغيير المواقف والمواقع مؤقتا لدى الكثيرين شمالا وجنوبا، إلا أنها ليست مجدية عند الكثيرين أيضا، وسيكون من المفيد البحث عن وسائل أكثر نجاعة وديمومة من الأساليب البالية.
خلال الأيام التي تلت سيطرة (أنصار الله – الحوثيون) على مداخل العاصمة والتحكم فيها، ارتفعت وتيرة الاتهامات بين الأطراف وبدأت وسائل الإعلام الحزبية المختلفة، وكذا الرسمية، الحديث عن نوايا كل طرف وسبر أغواره والرجوع إلى ملفات التاريخ بكل أعبائه ومساوئه، وتبين أن كل تلك الصور التي كنا نراها والابتسامات الصفراء كانت تخفي خلفها أحقادا وشكوكا، ومعها يتحين كل طرف الفرصة السانحة إما لتثبيت موقع وإما لاقتناص موقع جديد. وكانت مضحكة تلك الصورة التي بثتها المواقع الإعلامية لآخر لجنة كلفها الرئيس هادي لقاء السيد عبد الملك الحوثي وظهر أعضاؤها يصلون خلف الأستاذ محمد قحطان (أحد قادة حزب الإصلاح – الإخوان المسلمون)، وعدها مروجوها دليل رقة أفئدة اليمنيين ولين قلوبهم، ولكنها كانت برهانا ساطعا على سطحية المحللين وسذاجتهم.
إن مواصلة مسيرة الحكم بالأساليب العتيقة والركون إلى تكوينات غير دستورية لن يجديا نفعا؛ لأنها لا تمثل أكثر من شخوص المشاركين فيها ولا تستطيع الاستمرار في نشاطاتها دون دعم مادي سخي، لا يمكن إلا للدولة توفيره، وفي هذا إنفاق لا طائل من ورائه، يساهم في إضعاف وإرباك بقايا المؤسسات القائمة التي تم تهميشها عمدا خلال السنوات الثلاث الماضية لتعذر التحكم في حركتها وتوجهات القائمين عليها، وليس من الذكاء الاستمرار في تشجيع وتمويل قيادات لا ترتبط بالمجتمع ولا تحمل مشروعا وغير قادرة على تقديم رؤى مستقبلية.
تتفاقم الأزمات في اليمن، وبدلا من إيجاد المخارج بعيدا عن المكابرة والإفراط في البعد الشخصي لتفسير القضايا الوطنية والاستئثار بالقرار وإطلاق العنان لكلمات الوعيد والتهديد والنفور من كل رأي لا يتفق مع المصالح الذاتية لأصحاب الكلمة الفصل – كلها عوامل تحمل بذرة الفناء لأي نظام، وإذا ما أضفنا إليها ضيق الحلقات الحاكمة وضعف مؤهلاتها وكفاءاتها وانعدام تجربتها فإننا سنجد أنفسنا أمام مأزق لا بد أن يتيح الفرصة لمن يمتلكون مشروعا كي يجعلوه واقعا، ولا يهم حينها أن نقبله نحن أو أن نعترض عليه. ومن المصلحة الوطنية ترك الأبواب مشرعة لتبادل الأفكار عبر قنوات شرعية ودستورية، والتوقف عن التكليفات المباشرة لأفراد لا أشك في نزاهتهم، ولكنهم ليسوا أصحاب قرار كما أن بعضهم يمثلون النقيض التاريخي والعقدي للأطراف المراد التفاوض أو التفاهم معها.
جاءت الكلمات التي تناقلتها المواقع الإعلامية عن غضب الرئيس لنقض (أنصار الله – الحوثيون) تفاهمات تم الاتفاق عليها معهم لتبعث على الحيرة – إن صحت، وتستدعي تفسيرا وتوضيحا لماهيتها والهدف منها، خاصة أنها جاءت على لسان شخص التقى الرئيس مع عدد من الشخصيات اليمنية، كما أنها تظهر الحاجة إلى إعادة قراءة الأحداث الماضية بدءا من اقتحام عمران وحتى حصار صنعاء، ولا بد من استعادة بناء الصورة الحالية تأسيسا على المعطيات الواقعية ثم تشكيل الهيئات كما نصت عليها وثيقة الضمانات التي خلصت إليها لقاءات الموفنبيك والالتزام الحرفي بها وعدم الانتقائية، وبعدها يمكن الحديث والبحث عن آلية مشاركة حقيقية في الحكم لا المساومة والإغراء بعرض محاصصة وظيفية قد تستهوي البعض.
المصدر: الشرق الأوسط
http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=785293