خاص لـ هات بوست :
ترجمة: هتلان ميديا
قصيدة طويلة تتكون من 32 ألف كلمة كتبها الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري، المعروف باسمه الأول (دانتي)، في الفترة ما بين 1308 حتى 1320م، أي قبل وفاته بعام واحد. نحن نتحدث هنا بالطبع عن “الكوميديا الإلهية”، وهي قصيدة ملحمية تضم ثلاثة أقسام: الجحيم، والمطهر، والجنة؛ ثلاثة عوالم يسافر إليها دانتي في رحلة خيالية تحرره في نهاية المطاف من ظلمة حماقة الإنسان وتهديه إلى وحي النور الإلهي.
ربما يقول البعض أن مثل هذه الملحمة قد تصلح للقراءة على شاطئ البحر، ولكن مهلاً، فالكوميديا الإلهية أصبحت واحدة من الأعمال الخالدة ليس على مستوى الأدب الإيطالي فحسب وإنما على مستوى الأدب العالمي بشكل عام. علاوة على ذلك، فقد كتبها دانتي باللغة العامية التي تعكس مصطلحاتها وتشبيهاتها المجازية، في أي لغة، الكثافة الإيقاعية لـ “الشارع” بإيقاعاتها، وحيويتها، وتمسكها بنظامها الخاص الذي لا يمتثل لقواعد النحو، بدلاً من كتابتها باللاتينية، لغة الثقافة الرفيعة التي سادت أوروبا خلال القرن السابع عشر، بعد فترة طويلة من جفاف ينابيع الحياة في الحضارة الرومانية.
يعد دانتي عملاقاً في المرجعيات الأدبية الغربية. ولم يبالغ ت. س. إليوت عندما قال: “دانتي وشكسبير يقسمان العالم فيما بينهما وليس ثمة أحد في الوسط.” لقد رحل دانتي – المولود في فلورنسا بإيطاليا – عام 1321، وفي يناير من العام الجاري، أطلقت إيطاليا احتفالية ضخمة تستمر على مدار العام للاحتفال بذكرى مرور 700 سنة على وفاة أحد أعظم أبنائها.
بالنسبة للقارئ المثقف، ليس هناك ثمة شك في أن أعمال دانتي تشكل، في مجملها، حجة أدبية كبيرة، ولكن بالنسبة للمسلم المعتز بدينه، أعتقد أننا قد نواجه مشكلة هنا، فقد كان الشاعر الفلورنسي، بطبيعة الحال، على اتصال وثيق مع نظرائه الأوروبيين الذين عاشوا في أواخر العصور الوسطى وكانوا يكرهون الإسلام ويرفضون المسلمين ويصفونهم بأنهم “كفار” و”وثنيون” كريهون.
لقد شكل السؤال حول تلميح دانتي بمثل هذه المشاعر المعادية للمسلمين في الكوميديا الإلهية أهمية كبيرة لدى المتخصصين ممن درسوا دانتي. وتم نشر العديد من الكتب والمقالات والمراجعات النقدية منذ عشرينيات القرن الماضي، تحت عنوان “دانتي والإسلام”، لعل أحدثها مجموعة مختارات أدبية صدرت عن مطبعة جامعة فوردهام عام 2014 وراجعها جان زيولوفسكي.
الأمر ببساطة أن دانتي كان نتاج عصره وتأثر كثيراً بالحالة المزاجية السائدة. دعونا نتحدث بصراحة، ليست ثمة نظرية معرفية أو عمل أدبي يتم إنتاجه بمعزل عن الثقافة السائدة أو الفرد الذي كتب ذلك العمل. قد يكون دانتي عملاقاً، لكنه لم يستطع الخروج من عباءة الوعي السائد في مجتمعه والذي يتغلغل في المجتمع حتى اليوم ويطلق عليه اسم “الإسلاموفوبيا” وهي مشاعر ساهمت في تشكيلها أصداء التجربة التاريخية للشعب الأوروبي، والتي تمتد إلى أوائل العصور الوسطى.
ظهر الإسلام في شبه الجزيرة العربية خلال حياة النبي صلى الله عليه وسلم (عام 630) وفي عام 634، غزت قواته الإمبراطورية الرومانية الشرقية في بلاد الشام – وهو حدث أزعج الأوروبيين بشكل كبير – حيث كان نفوذه مبيناً على مفهوم “العصبية” (مصطلح ابن خلدون) في كل مكان، الأمر الذي بث الرعب والكراهية، والاستياء في قلوب الناس في كل مكان في أوروبا الغربية. وتوارثت الشعوب بقايا هذه المشاعر ، وإن كانت في صورة أكثر اعتدالاً، حتى عصرنا الحالي.
لقد تطلب الأمر من إدوارد سعيد، الناقد الفلسطيني الأمريكي، في كتابه “الاستشراق” الذي صدر عام 1978، أن يفجر قنبلة حطمت عالم الإسلاموفوبيا تحطيماً. وفي واقع الأمر، “اندهش” قراء سعيد في العالم الأوروبي الأمريكي عندما اكتشفوا أن المسلمين – موضوع تعصبهم الأعمى – لم يكونوا، طوال الوقت، “الآخر” بل مجتمعاً من البشر المثقفين. لقد كانت لحظة الذهول تلك تشبه شخصية موليير، السيد جوردان، الذي اندهش عندما اكتشف أنه كان يتحدث نثراً طوال عمره دون أن يدري.
وفيما يلي مثال حي على ذلك؛ في الذكرى الستمئة لوفاة دانتي، قرر المسؤولون في مدينة فيرونا الإيطالية فتح مقبرة كانغراندي ديلا سكالا، وهو سليل عائلة حكمت هناك بين عامي 1308 و1387 وكان معروفاً بكونه صديق وحامي الشاعر دانتي. وقد أذهلهم ما اكتشفوه هناك.. لقد كانت مقبرة كانغراند ديلا سكالا محاطة بمنسوجات إسلامية مع صلوات تسبح بحمدالله تعالى محيكة في القماش. هذه واحدة من المفارقات التي يجب على الجميع التفكير فيها بينما يحتفل الإيطاليون حالياً بالذكرى السبعمئة لشاعرهم الكبير.