كارثة تتسلل لأبنائنا في غفلة عن عيوننا، وأسماعنا، وانتباهنا، تستقطب عقولهم غضة الفكر، غير راسخة الخطى، أو ثابتة التوازن، وغير القادرة على التقييم الصحيح للأمور، لتغذيها بأفكار إرهابية شاذة وبغيضة، مستندة في ذلك إلى الإرهاصات المرافقة لفترة المراهقة، من حب التجربة، والاندفاع، والانقياد وراء الأفعال المثيرة الجاذبة للأنظار، التي يحاولون من خلالها إثبات رجولتهم، وقدرتهم، على حساب الأعراف، والأصول، في ضوء غفلتهم ونقص إدراكهم الكامل ببشاعة ما قد يقدمون عليه.
فاليوم وفي الخفاء وعلى غير توقع، فوجئت بعض الأسر بورود رسائل مفزعة للأبناء عبر خدمة «الواتس آب» على هواتفهم المحمولة، تحرضهم على قتل الأم أو الأب طعناً، لنيل جنات الرحمن، وتؤكد لهم سهولة الأمر، وأنه لن يستغرق سوى سويعات، وأنهم سيساعدونهم في تنفيذه بسرعة، والثواب سيكون كبيراً لهم في ذلك.
ولا يمكن ونحن نشهد ذلك إغفال ما طالعتنا به وسائل الإعلام المختلفة بالأمس القريب من جريمة التوأمين السعوديين اللذين أقدما على قتل أمهما بدم بارد ومحاولة قتل أبيهما وشقيقهما لولا العناية الإلهية التي كتبت لهما عمراً جديداً، فيما وحين تفتيش الأغراض الشخصية للمجرمين تبين انحراف فكرهما، واعتناقهما لأفكار «داعشية» دموية وهادمة من خلال رسائل هاتفية وأوراق مكتوبة، أباحت لهما قتل أقرب الأقربين إليهما بزعم أنهم من المرتدين، الواجب القصاص منهم في الدنيا، لنيل رضوان الله في الآخرة.
لا شك أن الأيدي يجب أن توضع على القلوب خشية على الأبناء، فعدد منهم – إلا من رحم ربي – في مهب رياح التطرف الذهني، والاستقطاب المنحرف لأفكارهم، وأنفسهم، والمهدد لأمن أسرهم، ومجتمعهم، والقاضي على كل الأعراف، والقيم، والعادات والتقاليد في ضوء انشغال معظم الأسر عن متابعة ومراقبة الصغار، والاطلاع على ما يتداولونه على هواتفهم المحمولة.
ما الذي علينا فعله لتجنيب فلذات أكبادنا السقوط في أي فخ فكري مضلل، أو هاوية دمويــة هادمــة، وما المطلــوب وضعـــه من ضوابــــط وقواعــــد من الجهــــات المختصة على اختلافهـــا سواء الاجتماعيــــة، أو الشبابيــــة، والأسرية، والدينية لحماية الصغار من الانسياق وراء أية دعاوى شاذة، ملتوية، تسوق «السم في العسل» كأن ستدخل الجنة، سيرضى عنك الله، سيحقق لك أحلامك، وخلافه مما يقال؟
ودعا خبراء أولياء الأمور إلى عدم ترك الأبناء فريسة لمواقع التواصل الاجتماعــي، وإلى غــرس القيــم النبيلــة في نفوسهــم، لحمايتهم من شرورها.
حول كيفية أن تكون الأسر بمنزلة حائط صد وحماية لعقول الأبناء من الاصطياد الأسود لهم من قبل شرذمة منحرفة الفكر، منعدمة الضمير، دموية الفعل، أجرت «الخليج» جولة بحثية على عدد من الجهات المعنية في التحقيق الآتي:
قال محمد راشد رشود الحمودي نائب رئيس مجلس أولياء أمور الطلبة والطالبات في دبا الحصن: الفراغ الفكري وضعف الثقافة الدينية يجعلان الشباب فريسة للوقوع في التطرف الديني، والانسياق وراء الأفكار الهدامة، المحرضة على الإرهاب، لذلك يأتي دور الأسرة في تأصيل وتعميق قيم الانتماء لدى أفرادها، والتي تعد من الحاجات الأساسية للنمو النفسي، والاجتماعي، وغرس الوازع الديني لديهم منذ الصغر، والتأكيد على حب الوطن، وتكريس قيم الانتماء والولاء للقيادة والوطن، والابتعاد عن المشاكل التي تفكك الترابط الأسري، ومنها العنف حتى لا يحدث شرخ داخلها يؤثر في نفسية الأبناء، ويؤدي لتشرد الأبناء لا سمح الله، بما قد يؤدي لسقوطهم في أيدي الجماعات الإرهابية الضالة.
كما أن للأسرة دوراً مهماً في مراقبة الأبناء في تحركاتهم، وملاحظة أي تغيير في أفكارهم، والوقوف على تعاملهم مع وسائل الاتصال الحديثة، فضلاً عن أهمية شغل أوقات فراغ الأبناء وقت العطل والإجازات، في ممارسة الأنشطة الترويحية المرغوبة، وأيضاً يجب أن تسود في الأسرة الواحدة روح الديمقراطية لتشجيع الأبناء للتعبير عن الرأي، واحترام الرأي الآخر، وإبداء وجهات النظر، وامتلاك الوعي والإدراك بسوداوية الإرهاب، من اختطاف الطائرات، والتفجيرات، والاغتيالات، وقتل الوالدين وإيهام من يقوم بمثل تلك الأعمال أنه شهيد في سبيل الله.
وهناك أهمية للدور التربوي والتعليمي في المدارس من خلال تدريس المقررات الدينية المناوئة للتطرف والإرهاب، ومن خلال الأنشطة الصفية واللاصفية، ويجب أيضاً تضافر جميع الجهود من مؤسسات مجتمعية، وأمنية، ومراكز شبابية في تأهيل الشباب، وتثقيفهم، على كيفية مواجهة الإرهاب.
تحديث القوانين
ويرى مصبح بالعجيد الكتبي العضو السابق في المجلس الوطني الاتحادي، ورئيس مجلس إدارة نادي مليحة الثقافي الرياضي أن ما يتعرض له الشباب اليوم من تضليل فكري، واستقطاب وتحريض على أفعال دموية، يعد من الأحداث الجديدة والصعبة للغاية، حيث ليست بالأمر التقليدي أو من السهولة بمكان مواجهتها، لأنها تستهدف سلب عقول الشباب والتحكم بها، وتوجيهها التوجيه السيئ، وقال: هذا الأمر جل خطر ويواجهه شباب العالم عامة والعربي والخليجي خاصة، وللأسف يأتي ذلك من جهات أو أشخاص تتحدث بلغة القرآن الكريم أي بالعربية، وهدفها بعيد كل البعد عن الإسلام والمسلمين، وعن العروبة وقيمها و أصلها.
لقد طالعتنا وما زلت تطالعنا بين الفينة والأخرى جرائم عن قتل شاب لوالده، أو والدته، أو شقيقه، أو غير ذلك من دون سبب سوى لتأثر هذا الفاعل أو الجاني بأفكار، وأهداف هذه الفئات الضالة الخارجة على الدين والقانون، والأعراف الإنسانية والاجتماعية، والصعوبة في الأمر أن كل هذه الأفعال كانت وراءها توجيهات وتحريض وتضليل للشباب، عبر وسائل الاتصال الحديثة، حيث استغلت هذه الفئات الضالة المارقة التقنيات الحديثة للوصول إلى الشباب المتشوق لكل ما هو جديد، وغير تقليدي، للولوج إليه، وتطبيق ما يمكن منه بفعل التأثر بأفكار أصحاب هذه التوجهات، التي تعمل على ضياع الشباب خاصة والمجتمع عامة.
والمشكلة أننا مثلنا كالذي يقدم سكيناً حاداً لولده، ويقول له اذهب والعب بقدر ما تستطيع، دون تحذير ومراقبة ومتابعة، وبالتالي فمن الطبيعي أن يقوم هذا الولد بالإضرار بنفسه أو بغيره، وكيف لا يحدث ذلك ونحن نعطيهم ما هو أكبر وأخطر من السكين، إنها وسائل التواصل الاجتماعي وأجهزة الاتصال بأشكالها المختلفة، وللأسف نرى تأثر الشباب بهذه التقنيات الحديثة العالمية، التي لا نعي مخاطرها إلا بعد أن نستيقظ على مآسي وحوادث أسرية شنيعة تهز المجتمع من فظاعتها.
وللأسف فإننا لا ندرك احتمالية استخدام الشباب لهذه الأجهزة وأدوات التواصل بشكل سلبي وخطير من عدمه، فيما والمهم أننا لا نحمل مسؤولية هذا الأمر على جهة واحدة، فإن كان للأسرة الدور الأهم والأكبر لمراقبة الأبناء فيما يشاهدون، ويقرؤون، ويتابعون، وتحصينهم بالدين الإسلامي والقيم العربية الأصيلة، ومتابعة كل ما يتعلق بهم سواء في المنازل أو خارجها، فهذا لا يعفي المجتمع من دوره في حماية الشباب من هذه الأمور الدخيلة عليه، بمساعدتهم في عدم التأثر بهذه الأفكار السيئة، فضلاً عن الدور الواجب على الجهات المعنية في الحفاظ على الشباب من هذه الأفكار الهدامة، سواء بتحديث التشريعات والقوانين القائمة، والتشدد فيها لمواجهة مثل الأفكار، علاوة على دور الجهات التقنية في إدراك دورها الأصيل، في حماية المجتمع عامة، والشباب خاصة من كل ما يتم تسريبه عبر هذه التقنيات الحديثة، وعدم السماح بدخولها أساساً إلى المجتمع، من خلال استخدام آليات تقنية متطورة في ذلك، كما نتمنى تعاون جميع الجهات لحماية مجتمعنا من هذه الآفة الحديثة، والخطيرة جداً على شبابنا ومستقبلنا.
ويركز يوسف خميس المزروعي العضو السابق في «استشـــاري» الشارقــــة على أن المواجهة تتطلب نشر الوعي من خلال تنظيم محاضرات أمنية تثقيفيــــة، ونشـــرات توعويـــــة، وإشغــــــال الطــــلاب بالأنشطـــة الصيفية المتعددة، التي تنظمها وتحتضنهـــــا المؤسســـــات المعنيــــة بالشباب، إلى جانب أهمية توعية الأسر بمراقبة ما يتم إرساله لهم على الأجهزة التقنية التي يحملها الأبناء، وتقنين فترات استخدامهم لها، والوقوف على المواقع التي يطلعون عليها من خلالها، لعدم ترك الحبل على الغارب لهم في ذلك، فضلاً عن ضرورة اصطحاب الآباء للأبناء في المناسبات المختلفة التي يشاركون فيها. وبالنسبة للإجراءات التي يمكن أن تتخذها الجهات الأمنية، فللأسف تعد شبه مكتوفة الأيدي، لأنه لا يحق لأي شخص اتخاذ إجراء معين، دون مسوغ قانوني، وإلا وقع في مشكلة، لذا فدورها ينصب في التركيز على نشر التوعية الأمنية من خلال رسائل قصيرة عبر مواقع التواصل، ومثال ذلك حملة مكافحة الألعاب النارية، التي تمت من خلال رسائل توعية عبر وسائل التواصل، وأسفرت عن مردود إيجابي، تمثل في عدم ورود بلاغات عن إصابات، أو خسائر من أي نوع.
الجانب النفسي
وتشدد ليلى محيي أبو ذكري مشرف الإنتاج الفني في المجلس الأعلى لشؤون الأسرة في الشارقة على أن قضية تحريض الشباب على أفعال مرفوضة ومناقضة للأعراف والضمائر، تتصدر ما عداها في الأهمية، قائلة: الشباب الذي قد يكون مستهدفاً، هم شريحة عالمية تسمى الأطفال كونهم دون سن الـ ١٨ سنة، و هذه الشريحة هي التي ستشكل شكل وهوية المستقبل، فيما أعداء العرب والمسلمين لا يغمض لهم جفن عن شبابنا فهدفهم الوحيد تدمير مستقبلهم، وبشكل عام لا نستطيع الحوار ومحاولة وجود حلول لهذه الشريحة بشكل مطلق، لاختلافها من حيث العمر، والجنس، والبيئة.
فبالنسبة للصغار دون الخمس سنوات، والذين يجب السيطرة عليهم، يجب ألا يزيد شحن الآيباد على نسبة الـ٢٥٪ فقط في اليوم الواحد، كما يجب عدم توفيــر إنترنــــت على أجهـــزة آيبــــاد الأطفال الأقل من ٥ سنوات نهائيـــاً، كمـــا يجب محاورتهــــم بمنطقية، وتوعيتهم دينياً، وإقناعهم أن وقت العائلة والتجمع العائلي مقدس ويجب عدم التفريط فيه، حيــث لأجدادهـــم، وأعمامهم، وأخوالهم، لهم حق عليهم في التعايــش معهــم منذ نعومة أظفارهم.
وبالنسبة للشباب فلابد من شغل أوقات فراغهم بشكل كبير، وبكثافة، وعلى الآباء والأمهات التنبه لما يتميز به الأبناء، ودفعهم في اتجاهــــه، ونحـــن في مسرح العائلة التابع للمجلس الأعلى للأسرة نستهدف الشباب من 12 – 20 عاماً، ومن خلال تجربتنا اتضح لنا أن دمج الشباب في العمل الفني المسرحي والغنائي مهم جداً، وتقاريرنا من أهالي الشباب أفادت بأنهم بالفعل تغيروا جذرياً إلى الأفضل أسرياً ونفسياً، وصحياً، ولكن الأمر يحتاج إلى تربويين، فنحن نربي ونعلم ونثقف ونقوم بدورنا ضمن إطار المسرح والغناء.
وخلاف ما سبق فهناك خطر حقيقي يرتكبه الآباء وهو هوسهم بمستوى أولادهم في المدرسة على حساب احتياجاتهم النفسية للأنشطة وغيرها، حيث يمنعونهم عنها بحجة الدراسة مما يعرضهم لضغط وكبت كبيرين، بما يؤدي بهم في الإجازة الأسبوعية إلى الانطلاق بقوة في الاتجاه المعاكس المتمثل في الانغماس في وسائل التواصل الاجتماعي، والألعاب الإلكترونية وغيرها، حيث لكل فعل رد فعل مضاد له في الاتجاه، ومساوٍ له في القوة وهنا يكمن الخطر، فلو كان الآباء من الفطنة بمكان لدفعوا أولادهم نحو الأنشطة المحببة لديهم، باتزان وقوه ليشبعوا لديهم الحاجات النفسية الضرورية.
نحن محتاجون إلى علماء نفس على دراية بالكيفية الصحيحة في تقوية الجانب النفسي لدى الأبناء، بحيث لا يرضخون لأي ممن يحرضهم ضد الأعراف، ولتكن هناك أنشطة وفعاليات لكل طفل، وشاب، وهذا دور المجتمع لمساعدة الآباء والأمهات في حماية الأبناء من أي غزو فكري، حيث من دون مؤسسات المجتمع الاجتماعية لن يستطيعوا رد هذه الهجمات الإلكترونية، وليحفظ الله أجيالنا رغم أنف الأعداء والمتربصين بهم.
القاضي خليل إبراهيم: جريمة يعاقب عليها الشرع والقانون
قال د. خليل إبراهيم المستشار في محكمة استئناف دبي: التحريض في الجرائم بشكل عام مجرم شرعاً وقانوناً، وخاصة في الأمور الخطيرة التي تؤدي إلى إزهاق الأرواح، أو نشر الفساد، سواء في الأهل أو الجيران، أو المجتمع عامة، لأنها تتأتى من جانب الضرر الذي نهى عنه الشرع والقانون، وفيه فساد للمجتمعات.
والحل يتمثل في منظومة متكاملة يسعى فيها الوالدين- باعتبار البيت المحضن الأول للأبناء- والمدرسة، ومؤسسة المسجد لتنظيم دروس، ومحاضرات من أئمة المساجد للأبناء، ومن ثم تأتي وسائل الإعلام المختلفة التي عليها دور كبير في التوعية، والإرشاد، والتوجيه.
وبشكل عام فهذا الفكر المنحرف، يجب معالجته بفكر سوي سليم، ويجب إيجاد البديل النافع للأبناء في وسائل التواصل الاجتماعي، ومن الضروري مد أواصر التعاون بين الدول في جانب الاتصالات، والمعلومات، لرصد مرسلي هذه الرسائل التحريضية الدموية.
الإسلام يجرم ويحرم الأفكار الإجرامية
بالرجوع إلى موقف الشارع الحكيم ممن يحرض على قتل ذوي القربى، ويستحل الدماء، قال أحد علماء الدين: هذا الفكر الإجرامي المنحرف لا علاقة له بالإسلام، بل إن الإسلام يجرم ويحرم هذه الأفكار، فديننا دين الرحمة، والتسامح، والعدل حتى مع المخالفين في الملة، والمعتقد، وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق» وقد يظن البعض أن هذا خاص بالمؤمن، في حين أن نصوص الشريعة تؤكد أن الاعتداء على حياة أي إنسان بغض النظر عن دينه، ومعتقده، أو الاعتداء على ماله أو عرضه، يعتبر جريمة نكراء.
وقال صلى الله عليه وسلم «من قتل نفساً معاهده بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها»، ومعنى النفس المعاهدة هي الإنسان الذي يدخل أرض الوطن بموافقة الجهات المختصة فهذا يسمى المعاهد، كما قال صلوات الله وسلامه عليه «من قتل معاهداً في غير كنهه حرم الله عليه الجنة».
المصدر: الخليج