التنوير في فكر الشيخ عبدالله بن بيه

آراء

خاص لـ هات بوست: 

   خطاب العلامة الشيخ عبد الله بن بيه، ثرٌ، حُر، كما البحر، خيره غَمْر، بَرّه هَمْر. فهو جامع مانع في حقول الأصول ومفازات الفِقه والمقاصد، فضلاً عن الحكمة التي تهدي العقول إلى الصواب، وتملأ القلوب بمعقول السكينة والطمأنينة. كلما اقتربت منه أكثر؛ ساءك أنك تباطأت، فما أتيت أبكر. وإذا ما حاولت الغوص في عُبابه تفاجأت بخفايا لُبابه. ولذلك يصح القول: إن خطاب الشيخ الجليل فضاء أزهر، أنور. بستان معارف حافل باللطائف العقلانية والقطائف العرفانية، ويمكن أن حيلنا إلى فلسفة إنسانية كونية متكاملة؛ لأنها تتركز بشكل أساس على ما يمكن أن نسميها منزلقات الحداثة أو مشكلات الإنسان المعاصر في الشرق كما في الغرب؛ وإنْ بدا الخطاب في عناوينه العامة، وكأنه ينتمي إلى خصوصية أو يخاطب هوية ثقافية بعينها، هي الثقافة العربية والإسلامية عموماً، وتجديد الخطاب الإسلامي المعاصر خصوصاً. ولكن البُعد الإنساني الكوني على مستوى التفكير أو الأشكلة الفلسفية في الخطاب لا يطمس الخصوصية الثقافية، ولا يلغي مشكلاتها بأي حال من الأحوال، وإنما ينهض بها إلى المقامات المحمودة، أي يرتقي بها إلى جوهر “خير أمة أخرجت للناس”، أي خير الناس للناس، حسب تأويل علماء المسلمين السابقين. ذلك لأن الإبداع بكل صوره الخلاقة يرتقي بالإنسان إلى مستوى الإنسانية المقدرة له، كما يُفترض أن تكون في الفطرة، أو كما يجب أن تكون بمقتضى سُنن الحكمة والشريعة.

  يندرج خطاب الشيخ المجدد عموماً في إطار مفهوم “الخير العام”؛ بالمعنى القرآني، أي الخير الإنساني الخالص، الذي لا يتقصد المِلكيات الذاتية أو المنافع المادية؛ إذ حالما تصير غاية الإرادات والأفكار المنافع الشخصية البحتة، مادية عينية، أو معنوية، وهو بالمعنى الأخير يمكن أن يدخل في شرك السرائر الذي نهى عنه الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) في حديث رواه ابن خزيمة وابن ماجة والبيهقي مرفوعاً عن محمود بن لبيد، إذ قال: “أيها الناس.. أياكم وشرك السرائر”، وفي المعنى الأول، يُفسد الضمير الأخلاقي الذي يُعتقد أنه يتشكل من ثلاثة عناصر، “الإرادة”، و”المعرفة” و”العمل”. فالعمل لا يكون خالص الجودة بمقصود الخير؛ إذا لم تخلص النية للخير، والإرادة تكون خبيثة؛ إذا لم تتقصد التسامي الإنساني، أي الخير الأمثل أو الأعلى، والمعرفة لا قيمة لها؛ إذا لم تتقصد النفع العام الكوني، ولا خير بعلم لا يعمل المرء به وإلا تفسُد الأفكار؛ لأنها (بالضرورة) تعبر حينذاك عن لحظة عابرة في حياة الإنسان، طالت أم قصُرت، وبالتالي لا تكتسب حضورها وديمومة فاعليتها أو خلودها، كما هو شأن الأفكار العبقرية العظيمة التي بنت مجد الإنسان وقامت عليها الحضارات الإنسانية؛ بفضيلة الإرادة الإبداعية الطيبة، والمعرفة السامية؛ باعتبارها فعل حرية، وبفضيلة العمل الدؤوب؛ كنحلة أو نملة؛ بخفة ورشاقة وصمت. وعلى ما يقول فلاسفة الأخلاق “الشيء الوحيد في العالم الذي هو خير في ذاته هو الإرادة الطيبة”، أي الإرادة التي تتقصد صناعة الخير العام للخير العام. فهو الخير الخالص بذاته، أي المقصود إليه من كل شيء؛ باعتبار أن صناعته تندرج في صميم مقاصد الشريعة، كما هي صورته في خطاب العلامة المقاصدي الشيخ عبدالله بن بيه. وبهذا المعنى المقاصدي لا تكون صناعة الخير في الخطاب مفارقة؛ لتمثلات الخير في المعقول والمنقول؛ إذْ من شيم الحكمة والشريعة مقصود الخير للخير ولا شيء سواه. والخير بهذا المعنى أشبه بالجمال، لا يكون إلا بغرض الجمال عينه، والعكس صحيح. ذلك لأن الخير في الأصل، أو الخير الأول، أو الخير الأسمى، يتمثَّل بالرحمة الربّانية، كما يتمثل الجمال الأول ببدائع خلق الوجود. فالرحمة الربّانية هي مبدأ الخيرية الوجودية الأولى؛ من حيث كونه إبداع إلهي ليست له سببيات ضرورية أو حتميات طبيعية. ما يعني أن الأسبقية الوجودية للخير العام، أو للرحمة الجمعية مؤسسة في الخطاب على الخيرية الرحمانية المطلقة، أي التفضل والجود من دون مردود، لا مقابل له؛ عيني أو مادي، فهو جود مطلق قبْل مفهوم الجود في إطار التكليف الشرعي نفسه، الذي يقتضي عمارة الأرض بالخير والجمال.

  وهو ما يجعل “الخير العام” في جوهر دواعي الأخلاق، كما وردت في منقول الحكماء والعقلاء الوضعيين منذ فجر الوعي الأول، وفي صميم الدين أو مقاصد الشريعة كما في الأديان التوحيدية، وبخاصة في الشريعة الإسلامية، حسبما وردت في التمثلات التاريخية لعلماء المسلمين، حيث “نجدهم معترفين بشرعية أعمالٍ تستهدفُ نفعَ الأنفُسِ البشرية، بغض النظر عن اختلاف انتماءاتها، أطلقوا عليها: “حقوق الله”، عادّين إياها مقصداً شرعياً، ومقتضىً أخلاقياً. “ويمكننا عدُّها قواعد “الخير العامّ”، وهي منتظمةٌ تفصيلاً في خمس:

– الحرية:

ذلك أنه بالنظر إلى تشوّف الشارع إلى تحرير الإنسان – وهو مقصدٌ ضروري- أبدعَ العلماءُ وسائلَ لتحقيقه، من خلال إناطته بمفهوم “فكّ الرقبة”، ومعناهُ: العِتْقُ؛ وهو أقوى ما يدل على تشوّف الإسلام إلى الحرية (في ذلك الوقت). وما تعانيه البشرية اليوم من الأزمات الاجتماعية، كلّه من العقبات التي يجب على الخيريّة أن تقتحمَها؛ لتحرر البشريةَ منها (…).

– تعزيز السّلم المجتمعي:

مما يندرجُ في قواعد الخير العام: تعزيزُ السلم المجتمعي، الذي توسّلت إليه الشريعةُ؛ باعتمادِ رؤية للعالم تأسّست على مفهومي “الأخوّة” و”التعارف”: “يا أيها الناسُ إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”، فالمبادرات الخيرية أيا كان مصدرُها ووسيلتُها، ينبغي تشجيعُها ونشرُها على أوسع نطاق؛ لما لها من تأثير قوي في نشر جو الطمأنينة والأمن بين أفراد المجتمع وفئاته.

-العمران:

من جملة ما أناطَه الشارعُ بالعمل الخيريّ: بلوغُ أقصى ما يمكن من صورِ العمرانِ، وذلكَ يشملُ الجانب المادي متمثلاً في إعانة المعوزين على ما به تتحسن ظروفهم المعيشية(…).

– الإغناءُ والتكريمُ:

والمرادُ به التحريرُ من الفقر والإقصاء الاجتماعي. ذلك أن “الفقر” و”الخير” متقابلان في التمثل الاجتماعي العامّ، والتجربةُ التاريخية للأمة شاهدة على أن العمل الخيريَّ كان يتمثلُ في سياسات تنموية إنسانية تقصدُ إلى محاربة الفقر، بالإدماج المباشر في دائرة العمل، قطعاً لأسباب الآفات التي تعوق المجتمعَ فتشدُّ عليه وِثاقَ التخلفِ، كالجهل والبَطالة والإجرام (…).

– الإشراك في المجال العام:

المجال العامّ هو ميدان لممارسة الحرية التي هي من صميم المقاصد الشرعية كما تقدّم، ولا يبادرُ الفرد إلى الالتزام بما يحقق “الخيرَ العام” إلا عندما يشعر بالانتماء إليه، ويتمتّع بحريّته. أما عندما يفقد هذين الأمرين، فإنه ينسحب من المجال العامّ وينكفئ على ذاته، فضعف الشعور بالانتماء، وفقد الحرية، يُفقد المجال العام أهم شرايين حياته؛ لأنه لا يتكوّن إلا بمجموع ذوات إنسانية حرة، تتشارك هموم الجماعة، وتسعى لتحقيق مصالحها”، كما يقول  رضوان السيد في بحث بعنوان “الإسلام والعالم.. رؤية إسلامية للسلام مع العالم”، منشور في مجلة “السلم”، العدد -3- ص- 151-172، عام 2018. ما يعني أن الإنجاز أو الإبداع الإنساني في كل تمظهراته النظرية والعملية، إنما هو نشاط إنساني يندرج في مقصود “الخير العام”، الذي يحاكي الخيرية الوجودية الأولى؛ وإنْ كان في بعض جوانبه، يعود بالنفع الذاتي الشخصي أو الخصوصي بالمعنى الثقافي. فكبار فلاسفة الأخلاق قاموا بجهودهم العظيمة في اتساق مع ذواتهم؛ بغض النظر عن العوائد. والأمر عينه مع كبار المخترعين أو المكتشفين، فهولاء في الغالب أنجزو إبداعاتهم في خلوة، ولم يأخذوا بحسبانهم المرود أو العائد الذاتي. وهذه هي سمة خطاب الشيخ عبدالله بن بيه في مقصود “الخير العام” في مداه الإنساني الأرحب.