رؤية طه حسين فاقت أبصارنا

آراء

قبل سنوات أقل عدداً من أصابع اليد، كان مأسوياً أن معظم وسائل الإعلام العربي تناقلت خبر قطع رأس تمثال طه حسين على يد متطرّفين يدّعون الإسلام، من دون أن تجرؤ على ذكر سبب هذا الفعل الشنيع! اكتفى بعض ذلك الإعلام بالقول إن متطرفي الأصولية الجهاديّة الإسلامية هم الذين أقدموا على هذا العمل، وهو فعل مجازي عن قطع رقبة «عميد الأدب العربي»، وهم مناهضون للتماثيل بعمومها، وأن ثلّة مُشابهة لم تتورع عن نسف تمثال بوذا في أفغانستان.

وبعدها، جاء نبأ قطع رأس الشاعر أبو العلاء المعري في سورية، الذي تمتد خيوط كثيرة بينه وبين حسين، ليس أقواها العمى أو التمرّس بالأدب واللغة. بعد قطع «رأسه» بأسابيع، ظهر كتاب لعميد الأدب العربي، عنوانه «من بعيد». وفي مقطع منه، يناقش حسين بعض الإسلامويين الذين يحاولون إثبات تفسيراتهم لبعض ما جاء في القرآن، بالاستناد إلى مكتشفات العلم. وفي لهجة ساخرة، طرح حسين على هؤلاء سؤالاً عما يفعلونه لو تراجع العلم عن الأسانيد التي يستعملونها أدلّة لصحة ما جاء في القرآن عن هذا الأمر أو ذاك. ونصحهم بسرعة سحب هذا النوع من «البراهين» قبل أن يثبت العلم غداً ما قاله بالأمس، وهو أمر وارد في العلوم بصورة مستمرة، فيصبح هؤلاء وتفسيراتهم واجتهاداتهم في خبر كان!

ألا يكفي أنّه تنزيل؟

الحال أن الخلاف بين طه حسين، وهو أزهري متمرّس، والمتشدّدين في تفاسيرهم للدين، ليس جديداً، بل أن معركتهم مع تمثاله تبدو أقرب إلى امتداد للمعركة التي خاضوها ضدّه حين نشر كتابه الشهير «في الأدب الجاهلي». ما الذي أثار حفيظتهم حينها، كما الآن؟ كل ما قاله حسين أن القرآن نزل على مجتمع معيّن، له ثقافة ولغة وتاريخ وفكر محدّدين، وأنه يجب أخذ هذه الوقائع في الاعتبار عند الخوض في تفسير القرآن وآياته وأحكامه ومقاصده. وشدّد حسين على أن القرآن يفيض بالآيات التي تدعو إلى الحوار والنقاش مع آراء أهل الجاهلية، كما يفنّد آراءهم وحججهم وأنماط تفكيرهم، وهي دعوة إلى حوار أساسه معرفة الطرف الذي يجري الحوار معه. لا حينها، عندما كانت مصر تحت الوصاية البريطانية، ولا الآن، ومصر تعيش ما بعد «ثورة يناير»، رضي هؤلاء بأن يدعوا إلى حوار أساسه التفهّم المتبادل والتكافؤ. ولعل رأي طه حسين في كتاب «من بعيد»، شديد القرب من ما نعيشه اليوم، حيث انفلات الفتاوى التي لا يمل بعضها في اقتباس أشياء من العلوم، وغالباً بابتسار لا ينمّ عن فهم للعلم ومجرياته، كي «يدعم» مقولات في القرآن، وكأن إلهيّة النص القرآني ليست كافية!

واستطراداً، يحمل هذا النوع من التفكير، الذي يسمى نفسه «علمياً» أحياناً، إساءة إلى العلم والقرآن. تأتي الإساءة إلى العلم في إخراجه عن مقاصده، وهي البحث المستند إلى عقل الإنسان للاكتشاف والمعرفة، كي يصبح أداة في التحريض والتعالي على البشر. وتأتي الإساءة إلى القرآن من إسناد موثوقيته إلى العلم الإنساني، وهو متغيّر وناقص ومتبدّل بالضرورة، بدل احترام قدسيته المستندة إلى كونه تنزيل من ربٍ رحيم.

المصدر: صحيفة الحياة