ناصر الظاهري
ناصر الظاهري
كاتب إماراتي

عجائزي الطيبات مثل وردة -1

آراء

السفر مع العجائز متعب في بدايته، ممتع في نهايته، خاصة وأن العجائز لا يثقن بأحد، فكيف إذا كان غريباً لا قريباً، وقد جربته مرات عديدة في أميركا وفي الحج وفي رحلات بحرية، ورحلات جماعية في أوروبا وفي بلدان آسيا، منها تلك الرحلة التي كانت في منتصف الثمانينيات، يومها كنت طالباً جامعياً متحمساً للمغامرة وشغوفاً بالمعرفة وملتزماً بأخلاقيات مثالية لم أستطع التخلص منها إلى يومكم، المهم أني في تلك الرحلة كنت راغباً في زيارة الريف الماليزي والقرى، واعداً نفسي برؤية تلك المناطق البريئة والأولية في كل شيء، فنظمونا كفريق صغير تستوعبنا سيارة ذات دفع رباعي، وشملت الرحلة غداء منزلياً نشاهد فيه الريفيات وهن يطبخن في قدور مركبة على الحطب، وربما تقوم الواحدة وهي تطبخ بإرضاع ابنها الصغير، وتتشاجر مع جارتها، ورغم بدء التنغيص من أولها حيث علمت أن الرحلة ستبدأ في تمام الساعة السادسة صباحاً، وأنا ساعتي تتوقف بعد الفجر، فبداية الصباح له عشق آخر، ومتعة أخرى، وأظن أن أجملها دفء الفراش ومتعة الرقاد من دون تقلب ولا أحلام، لكن لا بأس في كسر إيقاع اليوم لمرة قد لا تتكرر، ولمكان استثنائي مثل براءة البراري الأولى للإنسان!

كنت أول الواصلين، لأنني أحب دوماً أن أصل في الوقت المحدد، لا قبل، ولا بعد، لأن قبله يوجع المعدة، وبعده يؤنّب الضمير، والأمر الآخر أنني ببساطة لم أنم، وهذا أفضل من نعاس تظل تحلم فيه بمنبه الساعة، وبذلك اللوم الذي تفرضه عليك النفس إن تأخرت وأخرت العالم معك، جاءت بعدي بعشر دقائق عجوز أسترالية، قائلة إن صديقتيها أنهتا وجبة الإفطار، وستتناولان الدواء المقرر، وقد تتأخران ربع ساعة، ساعتها عرفت أن الفريق مكون من أربع عجائز وشاب في مقتبل العمر، بعدما رأيت الرابعة تتبع الظل، وتمشي وتترحطم لوحدها، حسبت في ذهني ما يترتب على هذه التشكيلة غير الكروية؛ من حمل الحقائب نتيجة بعض الشهامة، وما يتطلبه الذوق من رجل نبيل تجاه نساء رغم انقطاع الطمث عنهن، وعدم التذمر من الإيقاع البطيء، ومحاولة مسايرتهن وتتبع خطاهن، وأن عليّ المشي سبع خطوات، وبعدها أستريح، وأن أتحمل متطلباتهن ومزاجهن وثرثرتهن وأسئلتهن التي لا تنقطع، والتي ستبدأ بالتأكيد بسؤال تتبعه أسئلة صغيرة فضولية تبدأ ولا تنتهي، هل أنت متزوج، وهل لديك أطفال، ما أسماؤهم وما أعمارهم؟ حتى يصلن إلى سكني في المعترض، وهل هو المعترض الشمالي أو الجنوبي؟ كل شيء يهون مع العجائز اللائي طبيعتهن الثرثرة و«تقصير الدوب»، لكن الشيء غير الهين ألا تغفل عيناك عنهن لحظة، وأن تكون يقظاً على الدوام، لئلا تنزلق رجل واحدة، ومتنبهاً لئلا تصاب واحدة بالدوار، ويكون لديك دراية لا بأس بها بالإسعافات الأولية!
 بقين لمدة ساعة، هذه ذاهبة والأخرى آيبة، هذه تكح، وتلك تئن، والأخرى تطمئن عليهما، حتى انطلقنا.. وانطلقن هن في أسئلتهن، متمنياً أن يغططن في نوم متقطع، كعادة العجائز بعد الفطور ونومة الضحى، وأنعم أنا بنوم قليل، لكنهن ظللن يشغّلن صفوف تلك الأسنان التركيبية في الأسئلة، وفي قرض «البسكويت»، وأكل التفاح الذي جلبنه من وجبة إفطار الفندق، وأنا أضجر من أن يأكل أحد جنبي التفاح بذاك الصوت، فما بالكم وأن النوم كان بالأمس منعدماً والآن كابسٌ، والساعة البيولوجية مترنحة في الشرق الأقصى، والمعدة التي لا تشتهي أكل الصبح مبكراً متلبكة، ولما بدأت يقظتي المعاندة، غططن هن في نومهن، بقيت طوال الطريق أتفكر في أحوال العجائز اللائي هنّ متشابهات في كل مكان! وهل ذاك بسبب انقضاء السنين أم هي طبيعة الإنسان حين يريد أن يودع كل الأشياء في نهاية العمر؟

قضينا يوماً غير عادي، كنت طوال الرحلة واضعاً يدي على قلبي خوفاً على عجائزي، حيث بدوت كمن صحب جداته وتبرع أن يرفّه عنهن ويسليهنّ في خريف عمرهنّ.. كنت مستمتعاً للغاية.. وكنّ يضحكن من قلوبهنّ ببراءة طفل، وتمنيت ليلتها ليتني كنت أقدر أن أبقى ساهراً عليهن أو ليتني أنام، وهن يسردن الحكاية تلو الحكاية حتى أغفو في حضنهن! وغداً نكمل.

المصدر: الاتحاد